علي لفتة سعيد
كانَ ثملًا طوال الوقت.. وإذا ما أراد أن يقرأ شعرًا فإن عليه أن يصرخ بحركاتٍ مسرحيةٍ وقد عبّ كؤوسًا عديدة من العرق.. كان يقول لي: من لا يكتب القصيدة وليس بيده كأس خمرٍ فهو ليس بشاعرٍ ولا أديبٍ، ويضيف أن لا حياة بلا هذا الشعور الطافح.. هكذا يقول ويستمر وهو يرفع الكأس بوجهي: أنت لا تشرب إذن أنت لا تفهم بالكتابة شيء.. كان أكثرنا صعلكةً وصراخًا وعدم التزام .
غبنا معًا حين حضر الأميركان ولم أعد أراه في المدينة.. في يوم أعجبني حضور مهرجانٍ شعري نظمته الحكومة المحلية، قلت لأعرف ماذا يدور وما سيلقى من قصائد.. كانت القاعة تغصّ بالجمهور.. مسؤولون وشيوخ عشائر ورجال دين وأدباء وطلبة ومثقفون جدد.. وجوهٌ ملتحيةٌ في أغلبها وكان الصمت يدبّ في القاعة إلّا من همهمات بسيطة لا تقاطع عريف الحفل الذي يقرأ كلماته كمن يرتل القرآن. وكان الجمهور يردد خلفه «اللهم صلي على محمد وآل محمد».. كنت أصغي إلى القصائد.. والى تلك الهتافات الجديدة التي تميّزت بها المهرجانات التي تخلو من التصفيق.. لحظة سمعت عريف الحفل وهو يقول «أما الآن مع قصيدة للشاعر المؤمن المجاهد (…) فاستقبلوه بالصلاة على محمد وآل محمد».. كنت أجلس في الكراسي التي تلي حماية المسؤولين.. فوجئت برجلٍ يشقّ الطريق وبحركات هادئة، والورع يملأ وجهه.. كانت له لحيةٌ مرتبة.. تعب في حفّ حوافها على وجنتيه وتحت ذقنه ليكون بصورةٍ جميلة، وكانت أصابع يده اليمنى تختمت بثلاثة محابس، ومسبحة سوداء تتدّلى مثل مشنقة. صعد المنصة وبدأ يبسمل ويحمد الله والنبي، وحمد المسؤولين وراح يصرخ مباشرة بالقصيدة.. كانت تنزف إيمانًا وتلعن كلّ فاسدٍ ومفسدٍ لا يخاف الله ويلعن الاحتلال.. ثم لعن شاربي الخمر لأنها الفسق التي تغيب معنى الحياة.
وقفت وقد أحرقني الاستفزاز وبلا شعورٍ رفعت يدي لأميّز قامتي جيدًا، فسقطت عيناه على حركة يدي التي أردت فيها إشارةً واضحةً ترسم صورة من يشرب الخمر، وأنا أقرّبها من فمي.. صرخت بأعلى صوتي مقاطعًا بطريقة السخرية «صلوا على محمد وآل محمد».
خرجت من مكاني إلى الممر الطويل الذي يربط المنصة بباب القاعة.. وقبل أن أعطي ظهري له، بصقت باتجاه ريحٍ شممتها كأنها نتانة ماضٍ لم يزل يمشي على الأرض.
سقوط
التعليقات مغلقة