د. مدحت كاظم القريشي
تهدف هذه «الورقة» إلى تشخيص واقع القطاع الصناعي وتحديد أبرز مشكلاته والمعوقات التي تقف بوجه تطوره ونموه مع اقتراح سبل النهوض به، وذلك في إطار الاقتصاد العراقي الكلي.
وتركز الورقة على السياسات والاجراءات العامة من دون الدخول في التفاصيل لأنها ليست من اختصاص ورقة العمل هذه. وبما ان القطاع الصناعي أحد القطاعات الاقتصادية الوطنية فلا بد انه يتأثر ببقية القطاعات الاقتصادية ويؤثر فيها. ومن هنا لا بد من التطرق إلى بعض الامور المتعلقة ببقية القطاعات بقدر تعلق الأمر بعلاقتها بالقطاع الصناعي. وقد حاولت الورقة التطرق إلى بعض الجوانب الواردة في نقاط البحث المحددة قدر تعلقها بالصناعة.
الرؤية الكلية للاقتصاد العراقي
يتسم الاقتصاد العراقي بكونه اقتصاداً ريعياً يعتمد على انتاج وتصدير النفط الخام في توليد الناتج المحلي الاجمالي وفي تمويل الموازنة العامة ومصدراً للعملات الاجنبية. وبذلك فإن الاقتصاد العراقي اقتصاد وحيد الجانب ويعاني من اختلالات هيكلية كبيرة في ظل غياب شبه كامل للقطاعات الانتاجية السلعية مثل الصناعة والزراعة. وهو بهذا المعنى اقتصاد مكشوف على الخارج ويتأثر بالتقلبات الاقتصادية الدولية. ان مغزى ذلك ان اي تقلبات تحدث في اسعار النفط العالمية ينعكس بشكل مباشر على مجمل الاوضاع الاقتصادية المحلية. كما ان التغيرات في اسعار السلع المستوردة إلى البلد تنعكس بشكل مباشر أيضاً على المستوى العام للأسعار وعلى التضخم النقدي (التضخم المستورد).
ان مثل هذا الواقع يتطلب العمل على معالجة هذه الاختلالات الهيكلية لتحقيق التنويع في الهيكل الاقتصادي وارسائه على اسس صحيحة للانطلاق نحو التنمية الاقتصادية المستدامة لتحقيق الاهداف المنشودة ضمن إطار استراتيجية تنموية تتبنى منظومة من السياسات الاقتصادية والادوات والاجراءات التي تتناغم مع تلك الاستراتيجية.
قطاع الصناعة
واجهت الصناعة العراقية عبر مراحلها المختلفة نكسات وضربات موجعة ومتتالية تركت آثارها المدمرة على واقع وتطور النشاط الصناعي، ابتداء من عملية التأميم غير المدروسة للعديد من المصانع الاهلية في عام 1964، ثم الحرب العراقية الايرانية التي دامت ثماني سنوات، فالعدوان الأميركي على العراق في عام 1991 ومروراً بالحصار الشامل وغير المسبوق عالمياً والذي امتد لأثني عشر عاماً، وانتهاءً بالغزو الأميركي للعراق في عام 2003 والاطاحة بالنظام الاستبدادي، بل والاطاحة بمؤسسات الدولة وما تبعه من تدمير وحرق وسلب ونهب لمؤسسات الدولة والمصانع والمصارف الحكومية، ولم تسلم حتى المتاحف والمكتبات. ولهذه الاسباب انهارت وتوقفت جميع او معظم المصانع عن العمل والانتاج، أما المصانع التي استطاعت معالجة اوضاعها ومعاودة النشاط فإنها تعاني من ظروف ومشكلات عديدة مثل انعدام الخدمات الاساسية وفي مقدمتها الطاقة الكهربائية ومستلزمات الانتاج وارتفاع تكاليف الانتاج وخاصة اجور النقل واجور العمل وغيرها من الامور التي ليست في صالح النشاط الانتاجي.
واضافة إلى ما تقدم فإن انفتاح السوق العراقية على مصراعيها وبشكل فوضوي وغير مسؤول لكل انواع السلع ومن دون ضوابط او فرض الرسوم الجمركية او رقابة على الجودة والنوعية وبأسعار متدنية وذلك منذ 2003 مما ادى إلى توقف العديد من المصانع عن الانتاج لعدم قدرتها على المنافسة وتصريف انتاجها. ان معظم السلع الداخلة إلى السوق العراقية رديئة النوعية وتباع بأسعار متدنية، وربما دون مستوى تكلفة انتاجها في بلدانها الاصلية مما يثير الشكوك بشأن وجود حالة الاغراق، في ضوء حالة غياب السياسات الاقتصادية والرقابة والمتابعة وغياب اية رؤية اقتصادية واستراتيجية تنموية.
ان الفوضى الاقتصادية التي سادت في اعقاب 2003 تعود في جزء منها إلى حقيقة ان المعرفة الخاصة بالوضع العراقي والتحليل الاقتصادي كانتا منعدمتين لدى سلطة الاحتلال ولهذا فإن السياسات التي اتبعت في حينها كانت وصفة جاهزة لانموذج الاقتصاد الرأسمالي (المنفلت) ولا تعكس واقع الاقتصاد العراقي. ولهذا فقد فتحت باب الاستيراد على مصراعيه لكل شيء حتى الماء، ومن دون رسوم جمركية تذكر (باستثناء الـ 5% لإعادة الاعمار). وقد ادى ذلك إلى قتل كل نشاط انتاجي في البلد يسبب المنافسة غير العادلة وغير المتكافئة. وقد استمر الحال على هذا المنوال حتى بعد تأسيس الحكومات المتعاقبة.
أبرز المشكلات والمعوقات
1. تدمير وتوقف اغلب المصانع الحكومية والاهلية جراء عمليات السلب والنهب بعد 2003، فضلاً عن تقادم الخطوط الانتاجية لمعظم المصانع.
2. عدم توفر الطاقة الكهربائية المطلوبة للإنتاج وعدم انتظام التجهيز.
3. عدم توفر البيئة الملائمة للنشاط الاستثماري والصناعي، وارتفاع تكاليف الإنتاج.
4. انفتاح السوق العراقية على مصراعيها لشتى انواع السلع والمنتجات بما فيها ذات النوعية الرديئة والأسعار المتدنية وغير المطابقة للمواصفات والتي تشكل منافسة غير عادلة للمنتجات المحلية.
5. عدم وجود وسائل الدعم والحماية للمنتجات الصناعية المحلية، مقابل الدعم والحماية للعديد من المنتجات الأجنبية المصدرة للعراق، وخاصة من إيران وتركيا وغيرها.
6. صعوبة الحصول على التمويل الميسر، متوسط وطويل الأجل، للمصانع المحلية لاستيراد المكائن والمعدات الرأسمالية المطلوبة لتطوير الخطوط الإنتاجية وتحديثها، سيما وان المصارف التجارية تقدم التمويل قصير الأجل فقط وبضمانات واسعار فائدة غير ميسرة.
7. هرب رأس المال الوطني إلى دول الجوار بسبب الوضع السياسي والأمني غير المستقر وانعدام وسائل الدعم والحماية للاستثمار الصناعي وغياب البنى التحتية والخدمات.
8. وقوف المصالح التجارية المحلية والأجنبية بالضد من مصلحة النشاط الصناعي المحلي ومساندة بعض السياسيين المتنفذين لتلك المصالح التجارية التي تقف بوجه تأهيل وتشجيع المنتجات الصناعية المحلية. وهذا الوضع قد شجع دخول حتى السلع التي تعد بالمعنى الاقتصادي غير قابلة للمتاجرة مثل مواد البناء والطابوق، وذلك لارتفاع تكاليف نقلها عبر الحدود، فضلاً عن حالة الاسمنت الذي يغزو الأسواق العراقية وخاصة الانواع الرديئة وبأسعار رخيصة إلى الحد الذي يعيق تصريف الاسمنت العراقي ذي المواصفات الجيدة، الأمر الذي اضطر مصانع الاسمنت المحلي إلى تخفيض اسعار السمنت العراقي لتصريف الانتاج المتكدس في المخازن. كما ان ارتفاع اسعار الوقود لمعامل الطابوق دفعها إلى الاغلاق وتسريح العاملين فيها.
9. عدم التزام الوزارات المختلفة بشراء المنتجات العراقية وتوجهها إلى الاستيراد لأسباب مختلفة.
10. عدم التزام الإقليم بتطبيقه السياسات الاقتصادية والمالية والضريبية المتبعة في العراق والتي تؤدي إلى خلق المشكلات والمعوقات للصناعة المحلية وللاقتصاد الوطني بشكل عام.
التحديات والمشكلات
اضافة إلى المشكلات والمعوقات المذكورة انفاً هناك تحديات رئيسة وكبيرة تؤثر على النشاط الصناعي وكذلك على النشاط الاقتصادي بشكل عام وتعرقل امكانيته بتحقيق الاهداف المنشودة وأهمها:
أ. نظام المحاصصة السياسية الحزبية والفئوية والاثنية والمذهبية التي تعمل على ابعاد الشخص المناسب عن المكان المناسب بسبب استقلالية الكفوئين والنزيهين وعدم انتمائهم إلى الكتل السياسية المختلفة الأمر الذي يؤدي إلى اشغال الوزارات والوظائف العليا والحساسة والمهمة من قبل الفاشلين والفاسدين ومزوري الشهادات وممن ليس لديهم أية خبرة أو ممارسة ما ينعكس سلباً على الاداء الاقتصادي.
ب. انتشار الفساد الإداري والمالي في اجهزة الدولة المختلفة وضعف المحاسبة والعقاب.
السياسات والاستراتيجيات.. للاصلاح الهيكلي
ان متطلبات اصلاح الوضع الاقتصادي تحتم تبني استراتيجية تنموية ذات اهداف متفق عليها لتصحيح الوضع الهيكلي للاقتصاد الوطني من خلال تنويع وتطوير مختلف القطاعات الاقتصادية ورفع نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الاجمالي (وخاصة القطاعات السلعية) وذلك لتقليل الاعتماد على قطاع النفط الخام وتحقيق الاستقرار الاقتصادي واستدامة النمو بالاعتماد على مشاركة القطاعين العام والخاص، إلى جانب تطوير وتوسيع القطاع المختلط، مع الميل إلى الاعتماد أكثر فأكثر على القطاع الخاص في مضمار التنمية. وبخصوص القطاع الصناعي فإن الاستراتيجية التنموية الصناعية تتطلب تنويع الفروع الصناعية المختلفة وتنميتها لتحقيق التغيرات الهيكلية المرغوبة ضمن القطاع الصناعي وتحقيق نوع من التوازن المطلوب في فروع الصناعات الاستهلاكية والوسيطة الانتاجية لتعظيم الترابط والاعتماد المتبادل بين هذه الفروع الصناعية الثلاثة.
ان مثل هذا المسار يتطلب رسم سياسات اقتصادية لتطوير ورفع كفاءة قطاع انتاج النفط ليسهم في تمويل التنمية، وتحفيز نمو وتطوير القطاع الصناعي من خلال الاستثمار والدعم والجباية وتعزيز قطاع الزراعة ليساند النشاط الصناعي في توفير مستلزمات الانتاج الصناعي من جهة وتصريف انتاج الصناعة من جهة اخرى، فضلاً عن انتهاج سياسات مالية وتجارية مساندة للقطاع الصناعي.
السياسات الداعمة للنشاط الصناعي تتركز في التالي:
1. تشجيع الاستثمار الصناعي في القطاعات الثلاثة كافة.
2. تسهيل توفير التمويل الصناعي الميسّر المتوسط والطويل الامل.
3. استعمال الانواع الملائمة للدعم والحماية للمنتوج الصناعي على اسس انتقائية ولفترات زمنية محددة.
4. تهيئة البيئة التنموية المطلوبة والخدمات الاساسية للنشاط الصناعي بما فيها المدن الصناعية والخدمات المختلفة.
5. اصدار التشريعات الاقتصادية اللازمة لتنظيم وتنمية ودعم الصناعة الوطنية.
6. رسم سياسة تجارية تتناغم مع اهداف الصناعة الوطنية وضبط الاستيراد وتوفير مستلزمات الانتاج الصناعي والحد من استيراد السلع غير الضرورية.
7. الاهتمام بنشاط التقييس والسيطرة النوعية للإنتاج المحلي والسلع المستوردة.
8. إلزام الإقليم بتطبيق السياسات والاجراءات الاقتصادية والمالية والضريبية المتبعة من قبل الحكومة الاتحادية لتحقيق التناغم بدلا من التضارب الذي ينعكس سلباً على الاداء الاقتصادي وعلى مصالح البلاد العليا.
الرؤية الاستراتيجية
للقطاع الخاص
أعلنت الدولة بموجب دستورها وتوجهاتها العامة تبني اقتصاد السوق والابتعاد عن التخطيط المركزي وعن الاعتماد على القطاع العام حصراً، كما كان الوضع سابقاً. وطبقاً لذلك ينبغي الاهتمام والتركيز على القطاع الخاص وايلائه الاهمية الاكبر في النشاط الصناعي ورفع مستوى الكفاءة والانتاجية فيه وتشجيعه للدخول في شراكة مع القطاع العام ومع الشركات الاجنبية. ولتسهيل ذلك ينبغي اصدار التشريعات المطلوبة واصلاح الجهاز المصرفي وتمكينه من المساهمة بشكل أكبر في دعم وتنمية الاستثمار والانتاج.
الشراكة بين القطاعين
العام والخاص
ان الشراكة بين القطاعين العام والخاص تعد الوسيلة الناجحة لتعزيز الاستثمار والانتاج والنمو للصناعة العراقية، اذ انها تعمل على استثمار نقاط القوة في كلا القطاعين وجني ثمار ذلك للتعاون في توسيع فرص الاستثمار والانتاج والعمالة. ويمكن تحقيق هذه الشراكة من خلال التالي:
أ. اقامة مصانع خاصة لإنتاج مستلزمات الانتاج للقطاع العام وضمان تسويق منتجات القطاع الخاص.
ب. ان الشراكة والتعاون بين القطاعين تتعزز أيضاً من خلال دعم وتشجيع وتوسيع القطاع المختلط والذي يسهم فيه القطاعان معاً.
ج. ضرورة اقامة مجالس خاصة يتمثل فيها القطاعان العام والخاص مع الخبراء والمختصين والأكاديميين لرسم السياسات واتخاذ الاجراءات المطلوبة لدعم وتشجيع وخدمة الصناعة.
د. تشجيع الشركات المساهمة الخاصة والعامة لزج الملاكات الإدارية والفنية ورأس المال الخاص في الانتاج والاستثمار.
ولتحقيق الاهداف المنشودة من الاصلاح في مجال الصناعة وتذليل المعوقات التي تقف بوجهها يتعين اتخاذ جملة من الاجراءات وأهمها:
1. تأسيس مجلس اقتصادي يرتبط بأعلى هرم في الدولة يقيم ويوجه السياسات الاقتصادية، او تعزيز دور هيئة المستشارين في هذا المجال لكي يلعب الدور الرئيس في دراسة وتحليل وتوجيه السياسات الاقتصادية والصناعية.
2. اعادة النظر بالسياسات الضريبية بما يخدم العملية الانتاجية وتنظيم وتوجيه الاستيراد.
3. في حالة الاقتراض الخارجي او الداخلي يجب ربط ذلك بالمشروعات الاستثمارية حصراً.
4. رفع نسبة الفائدة على المدخرات لتشجيع الافراد على الادخار وتوجيهها نحو الاستثمار المنتج.
5. مكافحة حالات الاغراق التي يثبت وجودها في السوق العراقية.
6. محاربة الفساد بكل اشكاله بشكل جدي ورفع كفاءة الجهاز الإداري للدولة وكذلك كفاءة اجهزة النزاهة.
7. العمل على تحسين السياسات المالية وتطوير مصادر التمويل الدائمة وتجنب اللجوء إلى الاحتياطي الاجنبي لتمويل العجز المزمن في الموازنة العامة.
8. اعتماد سياسات الدعم المختلفة والحماية بما فيها الاعانات المالية والاعفاءات الضريبية وتقديم الخدمات المجانية للصناعة فضلاً عن استعمال الضرائب الجمركية وحتى القيود الكمية في بعض الحالات ان تطلب الأمر وذلك دعماً للنشاط الصناعي في هذه المرحلة التاريخية.
9. إلزام الوزارات بتشجيع المنتجات المحلية والتعاقد مع الشركات الصناعية لشراء منتجاتها وذلك ضمن ضوابط معينة في مجال السعر والنوعية.
10. العمل على إلزام الإقليم بتطبيق السياسات الاقتصادية والتجارية والضريبية المتبعة من قبل الحكومة الاتحادية لتجنب التعارض معها وخلق المشكلات من جراء ذلك.
11. الاستفادة من اسلوب المشاركة مع المستثمرين الاجانب سواء في مجال التمويل او تقديم التكنولوجيا الحديثة والإدارة.
* خبير اقتصادي واستاذ جامعي/ شبكة الاقتصاديين العراقيين