غربة

محمد عواد

لازلت ابحث عن منفى لقلبي المتسربل بوحشة الليل، لقلبي الذي ماتت كل امانيه إلا حلم الرحيل عن مدينتي الموبوءة بالموت، أضع قدمي في خاصرة المحطة المتربة وقضبانها الصدئة وانا اتساءل :هل وشمت ذاكرتي ببؤس الأماكن ؟أم أن هذه الأرض لا تعرف النسيان؟ الا يرتوي جفافها من كل هذه الدموع المشبعة بالهزيمة؟ ألا تشعرك بالتخمة كل تلك الوجوه الكئيبة قبل القتل؟، ارتمي بأعوامي الثلاثين على مقعد بارد برغم هذا القيظ، اندس بوجعي كعصفور مبلول يبحث عن دفء المكان، حقيبتي لا تفارقني، يحملها كتف متعب، قد أكون أخطأت لكن هذا قراري الاخير خارج زمن الانكسار، رحيلي سيكون هجرة أغادر بها الدروب التي اشبعتني احزانا ومسرات، ووجوها ادمنتها ودروبا تصرخ بطفولتي التي لم اشبعها بعد، أي محطة هذه التي لم تمهلني فسحة اذرف فيها دموعا نقية أو اتنهد بعد اختناق مميت؟ أعلم أن هذا القطار سيحمل صدى صرخاتي بالراحلين قسرا إلى عالم اللاعودة، تاركا وحشية السفاحين، لأشاطر نفسي الثكلى مرارة الفقدان، واكذوبة الانتظار لغائب لن يعود.
صوت القطار يوقظ ذاكرتي الموحشة بالوجوه تناديني: هل الرحيل علاج لروحك الثكلى؟ ابي، اخي، وجوه لم تودعني، ولم تترك لي وصية، لم أدرك أن أحدهم يشاركني المكان، كتلة سوداء لم يظهر منها غير عينين مسكونتين ببحر من الكحل، حائرة لم تحمل معها شيء، مدت يدها وهي ترتعش حتى تثقب بطاقتها، لا ادري لماذا وقع نظري وانا أتصفح رواية (الساعة الخامسة والعشرون) على هذه الكلمات :أن كل ما أريده منك هو أن تحتفظ بنظارتي، لن استعملها بعد اليوم، ولا أريد أن تقع في ايد غريبة، لقد تطلعات بفضلها إلى العديد من الأشياء في حياتي، لقد نظرت خلالهما إلى زوجتي اول مرة ).
-ماذا تقرأ.
ارفع بصري لا اعرف مصدر الصوت، انها هي التي تشاركني المكان:
-وهل تفهمين ما اقرأ.
-لا ولكنه التطفل لطريق لا ينتهي إلا بعد ساعات طويلة.
-انها رواية اسمها الساعة الخامسة والعشرون.
-وهل توجد مثل هذه الساعة في عالمنا؟ أم أنها ساعة خيالية ؟
-لا سيدتي انت الخيالية بهيئتك هذه.
-سيدي ليست هذه من شدة الإيمان، بل اختفاء من أعين لا أريد أن تراني راحلة.
-وهل تعرفينني حتى تستمري بوضع هذا الخمار على وجهك؟
-لا سأرفعه ولكن أعطني سيكارة قبل ذلك، ثم رفعت نقابها لتفصح عن وجه ابيض وعينيين سوداوين، سألتها :- لم الرحيل تحت جنح الليل سيدتي؟ هل انت مذنبة؟ وماذا ينتظرك في نهاية الرحلة؟
-أحد البيوت التي تعرفها سيدي، ومذنبة بزواج لم يرى النور من شيخ لف العمامة زيفا على عش قمل، اغراني بمكان ونقود وجنة بعد الموت.
وتحت وطأة سكون الليل الذي تعبث به صفارة القطار، بدأت تنزف حكايات من عالمها المشبع بالرذيلة والهزيمة والضياع. آه لو كان للسرير ولحواشي الجدران صوت لنطقت من كثر ما تشبعت بالأنفاس الآثمة .كنت لازلت احتفظ بضفائري. واسمع تأوهات وضحكات النساء الداعرة بجوار غرفتي، لقد كان لأمي منزل للدعارة، لم تنتظر أن تقص ضفائري فأدخلت زبائنها بعد أن ربطتني إلى جسر السرير ووقفت خلف الباب تسمع صرخات بكارتي، ودم الجريمة لم ينقطع ..فحولتني جسدا غضا للذين تورمت جيوبهم، زوجي كان أحد زبائني قبل أن ارتبط به، وقبل أن يضع العمامة ! تزوجني سرا، واقنعني أن اهرب معه، واسكنني غرفة في بيت يعرف أهلها، لم أجد غيره يقبلني على هذا النحو، كان يأتيني بين الحين والآخر، يقضي معي ليلة يعطيني النقود ويختفي، بعدها علمت ،عندما لم يأت .إنه ترك المدينة وخلف وراءه ست نساء حوامل.
أشعلت سكارتين، اعطيتها واحدة ارتشفت نصفها بعد أن زمت شفتيها بقوة قبل أن تنبعث سحابة دخان كثيفة، شعرت أنها تريد أن تنام فقلت:
-سيدتي إذا اردت النوم تمددي على مقعدك واتركي جسدك يرتاح قليلا فأنا مثلك أريد أن أغفو.
-نعم سيدي ربما انام لا اعرف الأمان. …..
ارخيت ظهري على مقعدي واطبقت جفوني على ذات الكابوس الذي يراودني منذ أشهر. ..محطة القطار تملؤها الأعشاب الجافة، والمسافرون يجوبون المكان بلا رؤوس، والنقود تتساقط من جيوبهم، يبحثون عن رؤوسهم التي تدحرجت في مكب النفايات، وانا امشي في زحام الأجساد وكل لحظة اتحسس رأسي وابحث عمن يدلني إلى باب الخروج…..
لم أعرف كم من الوقت نمت، لكن صوتا اجشا أيقظني:
-لقد اقتربنا من النهاية (نهاية الرحلة).
نهضت لأجد عينيها تراقبني…اعتدلت في جلستي وسمعتها تقول.
-سيدي لم تخبرني حكايتك وقد أزفت الساعة لنهاية الرحلة.
-سيدتي، حكايتي قصيرة جدا، انا منبوذ من مدينتي وأهلها، أسير إلى المجهول لأبحث عن منفى لأحلامي، فهل ترافقيني؟
استبشر وجهها، واجابت: -نهم سأرافقك، فقد تكون أنت الحلم الذي لم يراودني بعد،
ترجلت من القطار وانا ممسك بيدها الدافئة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة