المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر والقضية الغريبة ضـد قنصوة

سوسن جاد*

تستغل القوات المسلحة المصرية الثغرات القانونية والآليات البيروقراطية كي تتحكّم بمسألة قدرة العسكريين على ممارسة حقهم الدستوري بالمشاركة السياسية.
في الثالث من كانون الأول/ديسمبر، بعد أيام قليلة من إعلان العقيد أحمد قنصوة، في مقطع فيديو عبر «يوتيوب»، أنه ينوي الترشّح ضد عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية المقبلة في مصر، تم اعتقاله وإحالته للمحاكمة العسكرية بسبب إعلانه ترشحه فيما لا يزال ضابطاً في الخدمة العسكرية. في 19 كانون الأول/ديسمبر الماضي، حُكِم عليه بالسجن ست سنوات، في محاكمة أُنجِزت على عجل بطريقة غير معهودة، وهو ينتظر استئناف الحكم أمام محكمة عسكرية.
قنصوة، الذي حاول سابقاً الاستقالة من الجيش للترشح في الانتخابات البرلمانية في العام 2015، ليس الطامح الوحيد للرئاسة الذي يواجه عواقب وخيمة بسبب رغبته في الترشح. فبعد إعلان أحمد شفيق عن نيته الترشح – شفيق هو رئيس الوزراء المصري سابقاً وطيّار في سلاح الجو ترشح في الانتخابات الرئاسية في العام 2012 – تم ترحيله من الإمارات العربية المتحدة وعُزِل عن العالم الخارجي طوال 24 ساعة لدى عودته إلى مصر. إبان هذه الواقعة، أعلن أنه لم يعد يرغب في الترشح. وقد اعتُقِل سامي عنان، رئيس أركان الجيش المصري سابقاً، في 23 كانون الثاني/يناير، بعد إعلانه عن نيّته خوض الانتخابات الرئاسية، وهو الآن متّهم بالتحريض ضد الجيش ومخالفة القوانين العسكرية. وقد سحب المحامي المرموق خالد علي ترشّحه في 24 كانون الثاني/يناير، عازياً قراره إلى انعدام الآلية الديمقراطية، وغياب أي إمكانات للمنافسة. ليس هناك حتى تاريخه منافس بوجه السيسي.
ليس الضباط العسكريون ممنوعين من المشاركة في السياسة، إنما يتعيّن عليهم الاستقالة من الجيش قبل الترشّح لأي منصب. في أيار/مايو 2013، أكّدت المحكمة الدستورية العليا على الحق الدستوري لأفراد القوات المسلحة وهيئة الشرطة في مصر بالمشاركة السياسية – فأسقطت بذلك مشروع قانون تقدّم به مجلس الشورى الذي كان يطغى عليه الإسلاميون في ذلك الوقت، والذي كان ليحرم أفراد القوات المسلحة وعناصر الشرطة من حق الاقتراع. لقد أوضح قرار المحكمة الفارق بين حجب حق التصويت بالاستناد إلى ظروف «مؤقتة وموضوعية» (مثل السن أو العاهة الذهنية) وبين حرمان مجموعة كاملة من الأشخاص (مثل العسكريين) من حق معيّن. بناءً عليه أُسقِط القانون على أساس منع التمييز. فضلاً عن ذلك، شرحت المحكمة أن حرمان المواطنين من حق معيّن بالاستناد إلى طبيعة عملهم يشكّل انتقاصاً من الحق في العمل المصان أيضاً في الدستور المصري.
بيد أن دستور 2014، وتحديداً المادّة 87، أدخلت تغييراً في هذا المجال. على الرغم من أن الدستور ينص على أن المشاركة في الحياة العامة واجب وطني، وأنه «لكل مواطن حق الانتخاب والترشح»، إلا أن صياغة المادة تولّد بعض الالتباس من خلال عبارة «ينظّم القانون مباشرة هذه الحقوق». يُفسح ذلك في المجال أمام النظام للتمييز بين حيازة حق وممارسته. تنص المادة 87 أيضاً على أنه «يجوز الإعفاء من أداء هذا الواجب فى حالات محددة يبيّنها القانون»، وقد شكّلت هذه العبارة الأساس القانوني الذي استند إليه المرسوم 45/2014 الذي أصدره الرئيس المؤقت عدلي منصور وينص على منع أفراد القوات المسلحة في الخدمة الفعلية وهيئة الشرطة من المشاركة في السياسة – في خطوةٍ تحمل انتهاكاً إضافياً للقرار الصادر عن المحكمة الدستورية العليا في العام 2013.
يندرج مرسوم منصور في إطار مخطط متعدد الطبقات وضعه المجلس الأعلى للقوات المسلحة من أجل القضاء على المنافسة السياسية من قِبل أفراد القوات المسلحة الذين لا يحظون بموافقة المجلس. كذلك يمارس المجلس الأعلى للقوات المسلحة سيطرة مفرطة على الهيئة الوطنية للانتخابات التي تتولى، بموجب المادّتَين 208 و209 من دستور 2014، حصرياً مسؤولية وضع التنظيمات والإجراءات الخاصة بالانتخابات. بيد أن هيكلية الهيئة تمنح الرئيس المصري (الذي هو حالياً بمثابة شخص منتدب من المجلس الأعلى للقوات المسلحة في شكل أساسي) أدوات تتيح له التأثير في الهيئة وإلغاء المنافسة. أولاً، أعضاء الهيئة يختارهم قضاةٌ عيّنهم الرئيس الذي عليه أن يوافق أيضاً على الأعضاء الذين وقع الاختيار عليهم. لا يحدّد الدستور من هي الجهة التي يجب أن تكون الهيئة مسؤولة أمامها، ما يعني عملياً أنها مسؤولة أمام رئيس الجمهورية. كانت قرارات الهيئة تُعتبَر نهائية ولا يمكن استئنافها في المحكمة، حتى 8 كانون الثاني/يناير 2018، عندما أعلنت أنه يمكن استئناف قراراتها أمام المحكمة الإدارية العليا.
علاوةً على ذلك، ليست الهيئة منسجمة مع نفسها في القرارات التي تتخذها حول الشؤون اللوجستية والإجرائية في الانتخابات، ما يجعل من الصعب على الشخصيات المعارِضة تنظيم حملة انتخابية. في الانتخابات الرئاسية في العام 2014، قررت الهيئة تمديد التصويت ليوم إضافي عندما حمل تدنّي نسبة الاقتراع خطر تقويض صدقية الانتخابات، وإضعاف السيسي الذي كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة يدعم ترشيحه. في الانتخابات الرئاسية المقبلة، أمام المرشّحين 18 يوماً فقط للحصول على 25 ألف توكيل من 15 محافظة بغية التأهل لخوض الانتخابات. لا يستطيع المرشحون غير المدعومين من المجلس الأعلى للقوات المسلحة توقُّع قرارات الهيئة، أما المرشحون المدعومون من المجلس فيمكنهم ذلك.
يمارس المجلس الأعلى للقوات المسلحة سطوته أيضاً على المرشحين العسكريين المحتملين عن طريق اللجان القضائية لضباط وأفراد القوات المسلحة. تنص المادة 196 من دستور 2012 – التي تمت المحافظة عليها في دستور 2014 ضمن إطار المادة 202 – على أن المنازعات الإدارية للعسكريين تُحال الآن إلى اللجان القضائية لضباط وأفراد القوات المسلحة للبت فيها، بدلاً من مجلس الدولة الذي كان يفصل في كل المنازعات الإدارية في البلاد. استخدم الرئيس المؤقت عدلي منصور هذه المادة لتبرير إصدار مرسوم 11/2014، ينص على إنشاء اللجنة برئاسة وزير الدفاع وقادة الأفرع الرئيسية وكبار القادة، للنظر في استئناف أحكام اللجان القضائية لضباط وأفراد القوات المسلحة. إشارة إلى أنه لا يمكن استئناف الأحكام الصادرة عن اللجنة القضائية العليا لضباط وأفراد القوات المسلحة. يُصدر أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ونوّابهم، من خلال هذه اللجان القضائية، أحكاماً إدارية نهائية مقنَّعة في شكل أحكام قضائية. تشكّل قرارات اللجان المبرَمة أداة إضافية لتصفية المرشحين المحتملين في الانتخابات.
في قضية قنصوة، فإن القرار الذي اتخذته اللجان القضائية بشأن رفض استقالته – مع أن الاستقالة شأنٌ إداري – محميّ من الإبطال من منطلق أنه قرار قضائي صادر عن هذه اللجان. هناك ثغرة قانونية أخرى في صلب المأزق الذي يعاني منه العقيد قنصوة. بموجب القوانين المصرية، ينبغي على أي فرد في القوات المسلحة أن يقدّم نسخة عن استقالته لإدراجها في قوائم الناخبين – وعلى النقيض من القانون المدني، يفرض القانون العسكري قبول الاستقالة رسمياً قبل أن تصبح سارية المفعول قانونياً. رُفِضت استقالة قنصوة مرتَين من خلال الامتناع عن الرد، ومرة بموجب بلاغ رسمي صادر عن لجنة شؤون أفراد القوات المسلحة ومصدَّق من وزير الدفاع من دون تعليل الأسباب في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2014. رداً على هذه الأحكام، تقدّم قنصوة بثلاث دعاوى قضائية أمام اللجان القضائية لضباط وأفراد القوات المسلحة، التي ردّت الاستئناف في قرار ثبّتته لاحقاً اللجنة القضائية العليا.
فضلاً عن ذلك، شكّك قنصوة في دستورية اللجان، وتقدم في هذا الإطار إلى مجلس الدولة بسبع دعاوى قضائية في محاولة منه للحصول على اعتراف باستقالته من هيئة شرعية دستورياً. إحدى هذه القضايا، والتي تعود إلى 29 شباط/فبراير 2016، كانت ضد وزير الدفاع صدقي صبحي على خلفية رفضه لاستقالة قنصوة. طعنت هذه القضية على وجه التحديد بالتركيبة غير القضائية، وبالتالي غير الدستورية، للجان القضائية. خلال هذا المسار الطويل، تقدّم قنصوة أيضاً بثلاثة طلبات إلى مكتب وزير الدفاع من أجل الحصول على إذن للاستقالة والترشح للرئاسة، وذلك في تشرين الأول/أكتوبر 2015، وشباط/فبراير 2016، وآب/أغسطس 2017. إنما لم تلقَ أي من هذه الطلبات جواباً.
على الرغم من أن قضية قنصوة لا تزال عالقة، إلا أنها نجحت في ممارسة ضغوط على الرئيس السيسي لإصدار المرسوم 5/2017 في الخامس من شباط/فبراير 2017، الذي نصّ على تعديل تركيبة اللجنة القضائية العليا، وعلى تكليف رئاستها إلى عضو في القضاء العسكري. لكن اللجنة القضائية العليا الجديدة استمرت في رفض طلب قنصوة بإبطال قرار اللجنة السابقة لها. غير أن قنصوة لم يرتدع وتقدّم بدعوى أخرى في 12 كانون الثاني/يناير لدى المحكمة الدستورية العليا، مشكِّكاً بدستورية مرسوم منصور 11/2014 الذي يمنع أفراد القوات المسلحة من المشاركة في السياسة – كما أنه طعن بالأساس الذي تم الاستناد إليه لرفض الاستئناف الذي تقدّم به سابقاً أمام اللجنة القضائية العليا. لم تُحدّد المحكمة الدستورية العليا بعد موعداً لعقد جلسة استماع للنظر في القضية على الرغم من أن الوقت أصبح ضاغطاً بالنسبة إلى قنصوة نظراً إلى أن المهلة المتاحة للترشّح للانتخابات الرئاسية تنتهي في آذار/مارس المقبل. تُظهر هذه المعركة القانونية الطويلة كيف أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يبذل قصارى جهده لضمان فوز السيسي في انتخابات 2018.
لقد سلّطت المعركة القانونية التي يخوضها قنصوة، الضوء على سيطرة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على جميع الآليات الدستورية والقانونية التي تنظّم نقل السلطة، وهذا ما أكّده أيضاً توقيف الفريق السابق سامي عنان. على الرغم من هذه القبضة المحكمة، يشكّل إصرار قنصوة وخطاب عنان الصدامي، الذي دفع بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى الرد عليه بنبرة حادة، مؤشرَين مهمّين عن الاستياء من السيسي في أوساط القوات المسلحة. يطرح ذلك سؤالاً أساسياً عن عمق الانقسام الذي يحاول المجلس الأعلى للقوات المسلحة طمسه، ومدى استعداد المجلس للمخاطرة بوحدة الصف في القوات المسلحة.

*ينشر هذا المقال بالاتفاق مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ٢٠١٤
لقراءة النص الأصلي٬ اتبع الرابط التالي: http://carnegieendowment.org/sada

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة