اندرياس فيلاسكو
يبدو أن الأسواق أصبحت عامرة بالأمل، مثلها في ذلك كمثل الخبراء المجتمعين في دافوس هذا الأسبوع،: فقد أصبح الاقتصاد العالمي على الطريق نحو تحقيق التعافي المتوازن بل وربما المستدام. ولكن مع تحسن الاقتصاد، فهل تحذو السياسة حذوه؟
من منظور الأشخاص الذين يرون في ارتفاع الشعبوية في مختلف أنحاء العالَم هزة تالية لزلزال الأزمة المالية العالمية، فالإجابة هي أجل. فمع انخفاض البطالة وبدء نمو دخول الطبقة المتوسطة، سوف يتلاشى الإغراء الشعبوي، أو هكذا يأملون.
أتمنى لو كان الأمر بهذه البساطة.
سوف ينسب الساسة الشعبويون الذين يتصادف وجودهم في مناصبهم (دونالد ترمب أو المحافظون من أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة، على سبيل المثال) الفضل لأنفسهم في التعافي، وهذا من شأنه أن يطلق يدهم في الساحة السياسية. ولكن هذه ليست سوى ظاهرة قصيرة الأمد.
خلال السنوات القليلة الماضية، دارت مناقشة محتدمة بين مؤيدي التفسيرات الاقتصادية والسياسية/الاجتماعية للشعبوية. ويؤكد التفسير الاقتصادي أنه في عالم حيث تزداد فجوة التفاوت الاقتصادي اتساعا ويتفاقم ركود دخول الطبقة المتوسطة (وهنا نستشهد بالولايات المتحدة كدليل إثبات أول)، لا ينبغي لأحد أن يفاجأ إذا تحول الناخبون الغاضبون من الطبقتين المتوسطة والعاملة إلى الساسة الذين يعدون بعكس هذه الاتجاهات.
ويظل البت في هذه القضية بعيد المنال، ولكن حتى لو كان التفسير الاقتصادي مصيبا، فإنه لا يستتبع أن يُحدِث التعافي العالمي الحالي فارقا سياسيا كبيرا بالضرورة. وإذا كان لنا أن نعتبر التضخم الأخير في أسعار الأصول مؤشرا لأمور آتية (وليس أن أسعار الفائدة الحقيقية من المرجح أن تظل منخفضة لفترة طويلة للغاية)، فإن النمو قد يكون من النوع الذي قد يؤدي مرة أخرى إلى زيادات غير متناسبة في دخول وثروات أعلى 1% دخلا.
وحتى في أفضل السيناريوهات، والذي يفترض أن توزيع الدخل بدأ يتحسن، يتفق خبراء الاقتصاد من جميع المشارب على أن التغيير سيكون بطيئا للغاية. كما أن عوامل أخرى أثارت اضطرابات سياسية ــ مثل انحسار التصنيع، وخسارة وظائف التصنيع، وجيوب البطالة العنيدة في المدن والمناطق التي تخلفت عن الركب ــ قد تتغير ببطء شديد هي أيضا، إذا تغيرت على الإطلاق. وحتى إذا تسببت موجة التعافي المرتفعة في رفع كل القوارب، كما يزعم خبراء الاقتصاد المحافظون، فلن يكون ذلك كافيا لدفع العديد من السفن بعيدا عن العواصف الشعبوية.
وهذا أيضا لأن العديد من العوامل التي تحرك الشعبوية ليست اقتصادية. والدليل الأول هنا هو أن الأحزاب الشعبوية اكتسبت دعما جماهيريا حاشدا (إن لم يكن المزيد من القوة) في دول تتمتع بأداء اقتصادي قوي. ويصدق هذا على الدول المتقدمة، مثل ألمانيا والسويد، والاقتصادات الناشئة مثل الفلبين وتركيا.
وكما يُشار إلى الشعبوية في كثير من الأحيان، فإنها تمثل أسلوبا سياسيا يعمل على خلق «آخر» يمكن إلقاء اللوم عليه عن كل العلل في أي مجتمع. ففي سرد اليسار، يتجسد «الآخر» في هيئة النخبة ــ سواء كانت اقتصادية أو مالية أو سياسية. ومن منظور الشعبويين من جناح اليمين، يخدم الأجانب، أو المهاجرون، أو الأقليات العِرقية والدينية نفس الغرض.
وهذه الظاهرة ليست جديدة على الإطلاق. فقد انتشرت الشعبوية في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر؛ وكانت الفاشية الأوروبية في القرن العشرين تنويعة من الشعبوية اليمينية؛ وبالطبع، كانت الشعبوية اليسارية سِمة من سمات السياسة في أميركا اللاتينية من جيتوليو فارجاس وخوان دومينجو بيرون قبل عقود من الزمن إلى كريستينا فرنانديز دي كيرشنر ونيكولاس مادورو اليوم.
وربما ساعد عاملان في تسهيل العودة الأخيرة إلى الشعبوية: تسارع التغير الثقافي والاجتماعي، وفساد النخب السياسية الراسخة المتصور.
ولنبدأ بالتغير الثقافي والاجتماعي. قبل فترة طويلة، أعرب عمالقة علم الاجتماع، من أمثال إميل دوركهايم، وفرديناند تونيز، وجورج سيمل، عن قلقهم من تسبب الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث في تقويض هياكل الدعم التقليدية وشعور الأفراد المتروكين خلف الركب بالعزلة والتعاسة. أي أن الاغتراب كان نتيجة للتحديث، وليس عَرَضا لغيابه.
الدرس المستفاد من الفترات السابقة هو أن الشعبوية تزدهر في البيئات التي تتسم بضعف المصادر القديمة للهوية ــ مثل الطبقة أو الأمة على سبيل المثال. ففي الدول الغنية، حدث هذا الضعف نتيجة للعولمة الثقافية والهجرة الجماعية؛ وفي الدول الناشئة، تستسلم الأدوار والقيم التقليدية للتوسع الحضري السريع وظهور طبقة متوسطة جديدة تستخدم في الصناعة أو الخدمات.
في بلدان أميركا اللاتينية التي شهدت نموا اقتصاديا سريعا على مدار العقدين السابقين، يقول الناس لمستطلعي الآراء إنهم يعيشون حياة أفضل كثيرا من حياة آبائهم وإنهم يتوقعون أن يعيش أبناؤهم حياة أفضل. لكن كثيرين من نفس الأشخاص يعربون عن شعورهم بالعزلة والظلم، ويعتقدون أن مجتمعهم جائر، ولا يثقون في جيرانهم على نحو متزايد، ويزعمون أنهم خاب أملهم في الديمقراطية. وعلى أكتاف مثل هؤلاء الناخبين تُبنى الحركات الشعبوية الحاشدة.
يقودنا هذا إلى العامل الرئيسي الآخر الذي يقوم عليه دعم الشعبوية: وهو تراجع شرعية النخب السياسية. فمن المستحيل أن نفهم صعود ترمب دون الرجوع إلى تصور شعبوي (سواء كان صحيحا أو لم يكن) مفاده أن العديد من الساسة الأميركيين أصبحوا في جيب المصرفيين الجشعين. ويُقال إن حركة النجوم الخمسة ما كانت لتكتسب كل هذه القوة في إيطاليا لو لم يتصور الناخبون هناك أن الطبقة السياسية التقليدية عملت على إثراء نفسها بشكل منتظم باختلاس المال العام.
بطبيعة الحال، من غير الممكن أن نفهم الشعبوية الأميركية في غياب فساد كثيرين بين أفراد النخبة السياسية. وكانت الفضيحة الكبرى في البرازيل حول رشاوي شركات البناء، والتي امتدت إلى كل دول المنطقة تقريبا، بمثابة الفصل الأخير في تاريخ طويل ومحزن.
لن يتغير أي من هذا بفِعل التعافي الاقتصادي العالمي. ونحن في احتياج إلى الزعامة السياسية ــ لمساعدة الناس على فهم التغيرات التي يشهدونها ــ والإصلاحات التي تعمل على بناء أسوار عازلة معقولة بين المال والسياسة، واستخدام التكنولوجيا لزيادة المساءلة الديمقراطية وتسهيل مشاركة المواطنين. وقد أدى القائمون على البنوك المركزية ــ المهندسون المتأنقون للانتعاش الاقتصادي الحالي ــ وظيفتهم. والآن، يتعين على الساسة أن يقوموا بوظيفتهم.