نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 41
الفصل السادس عشر

مشروع 300 و(أم المعارك)
التكليف ، تكوين الفرق التصميمية ، عرض التصاميم على الرئيس الجمهورية صدام حسين، المرحلة الثانية من المشروع ، حرب الكويت ومغادرة بغداد الى السليمانية ، عودة قصيرة الى بغداد ، العودة من السليمانية الى بغداد , اختفاء وعودة نظام صدام في آذار 1992 , اكمال تصاميم مشروع 300
انقضى نحو شهرين من الفترة التعاقدية للمشروع ، واخذت اعمالنا تتباطأ بعد 2 اب 1990 . لقد كانت وطأة الاحداث المتلاحقة ، وتطورات التهديدات العسكرية الدولية ، واضحة على عملنا ، والاعمال في العراق بصفة عامة . فلم تكن هناك أي فائدة من عقد اجتماعات للتنسيق بسبب فقدان السيطرة على وسائل التنسيق ، حتى كادت اعمالنا ان تصبح متوقفة . قرارات مجلس الامن القت بثقلها على الواقع في العراق ، واخبار التحشد العسكري للقوات الاجنبية سادت على أي حديث . ورغم عدم التأكد من ان هذه القوات ستوجه ضربة الى العراق ام لا ، فعلينا ان نهيئ انفسنا لظروف الحرب المتوقعة .
بدأنا بشراء وخزن المواد الغذائية في الثلاجات والمجمدات والمخازن البيتية . وكان الجميع يفعل هذا استعدادا لايام استثنائية ، بعد ان اعطى مجلس الامن انذارا الى العراق بسحب جيشه من الاراضي الكويتية قبل يوم 17 كانون الثاني 1991 ، وعدم ظهور ما يدعو الى ان العراق سيستجيب للمطالب الدولية .
كان حديث الناس في كل مكان : هل ستبدأ الحرب ام لا ؟ هل سينسحب العراق من الكويت ؟ هل يستجيب صدام حسين لحل الأزمة ؟ لا شيء يتضح في الأفق ، سوى ان الحكومة وزعت الكمامات الواقية من الغازات السامة على الحزبيين والمقربين منهم ، كما خصصوا المواقع والملاجئ لهم . اما بقية ابناء الشعب فقد تركوا لمواجهة الموقف . هذه الامور وغيرها كنت اشعر بها ويشعر الكثيرون بوجود تفرقة صارخة بين العراقيين .
ونحن نقترب من نهاية 1990 ، اقترحت عليّ ابنتي غادة ان نزور السليمانية في شمال العراق للتمتع بمشاهدة الثلوج في هذا الموسم ، حيث لم تسنح لها الفرصة قبلاً المشاهدة الثلوج في كردستان.
اتصلت هاتفيا بصديقي الكردي رفيق قزاز حسب طلب ابنتي غادة وهو من الاسرة المعروفة في السليمانية ، وقد ابدى استعداده لاستقبالنا لمشاهدة جمال الطبيعة في الشتاء في السليمانية ، والابتعاد عن الخطر المقبل في بغداد . حزمنا امتعتنا ، وهيأت عددا من الكتب التي قررت قراءتها خلال فترة بقائنا في السليمانية . وصلنا الى دار رفيق قزاز واستقبلنا بحفاوة من اسرته الكريمة . وقد خصصوا لنا غرفة واسعة للسكن فيها . وقد خصصت غرفة الاستقبال الكبيرة لتكون غرفة نتجمع فيها عند نشوب الحرب .
قضينا ثلاثة ايام بالتجول في انحاء السليمانية والمناطق القريبة منها ، مستمتعين بمناظر الطبيعة ، حيث الثلوج والاجواء الساحرة خلالها ، حتى يوم السابع عشر من كانون الثاني ، وفي نحو الساعة الثانية والنصف قبل طلوع فجر ذلك اليوم ، سمعنا صافرات الانذار باصواتها الرهيبة ، فتركنا غرفنا ، وتجمعنا في غرفة الضيوف ..
ها قد بدأت حرب الخليج .. وبدأت معها اسوأ فترات تاريخنا الحديث ، وبسرعة فائقة اخذت وطأة الحرب والحصار الاقتصادي ، تتوضح على الحياة العامة في العراق .
وفي الصباح ، تلقينا مخابرة من اخت زوجة رفيق قزاز في بغداد ، ذكرت ان القصف شديد على بغداد واصوات الانفجارات تسمع من كل جهة ، وانها متوجهة مع اخرين الى السليمانية ، وسيصلون عصرا . وبعد وصولهم ، تم توزيعهم على غرف البيت . نظمنا حياتنا بتوزيع مسؤوليات البيت . استمرت الطاقة الكهربائية واسالة الماء تعمل بشكل اعتيادي . كانت الحياة طبيعية ، وكنا نتجول في المدينة صباحا وعصرا ، ونعود الى البيت لنتبادل الاحاديث المختلفة وسماع الاخبار عن تطورات الموقف . وبعد العشاء كنا نستمع لاذاعة صوت امريكا التي كانت تقدم نشرة اخبار العمليات العسكرية ، وبعدها نشغل انفسنا بلعب الورق او تبادل الاحاديث .
بدأت الطاقة الكهربائية بالانقطاع عن السليمانية ، وتوزع لساعات قليلة يوميا على الاحياء السكنية ، ثم انقطعت بصورة تامة . بدأت المجمدات والثلاجات بالذوبان ، ومالم يتم تدارك الامر فأن اللحوم ستتلف . كانت هناك سمكة كبيرة محفوظة في المجمدة ، وطلبت ام دياري زوجة رفيق قزاز الاستفادة منها قبل تلفها ، فقررنا الذهاب بسفرة الى منطقة دوكان للتمتع بالاجواء الطبيعية ، وشوي السمكة هناك .
يالها من مفارقة .. بغداد تتعرض للقصف على مدار الساعة ، ونحن في السليمانية نمتع انفسنا بسفرة جميلة في منطقة وادي دوكان ، وامامنا جبل بيرة مكرون الشامخ الى السماء . فرشنا السجاد واشعلت النار ، لتقوم النسوة بإعداد ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات ، وشوي السمكة الكبيرة . كانت الطبيعة جميلة للغاية على الرغم من برودة الجو والثلوج تغطي قمم الجبال المحيطة بالمنطقة . كانت سفرة ممتعة ، امتدت الى غروب ذلك اليوم.
حدثني عديل رفيق قزاز ( ابو هافال ) ، ونحن في تلك السفرة ، حول وصية العالم والشخصية الكردية الكبيرة ( توفيق وهبي ) ، حيث طلب في وصيته ان يدفن في قمة جبل بيرة مكرون . ولما كان ابو هافال من موظفي وزارة الداخلية ، وله علاقة بادارة محافظة السليمانية ، فقد زار احدى قرى ذلك الجبل ، لتفقد الطريق ووصوله الى القمة ، وبعد التداول مع ابناء القرية ، بدأوا بفتح الطريق الذي سيسلكه المشيعون الى اعلى الجبل . وفي اليوم التالي شيع جثمان المرحوم ( توفيق وهبي ) ، وتسلقت السيارات ذلك الطريق الجبلي الوعر الى القرية ، ومن هناك حمل الجثمان على البغال الى قمة الجبل ووري ثراه ، وفقا لوصية ذلك العالم الجليل رحمه الله .

عودة قصيرة الى بغداد
انقضى الاسبوع الاول من الحرب ، ونحن في السليمانية . قلقنا لانقطاع الكهرباء عن مدن العراق ، مما يعني تعفن محتويات المجمدات وتحللها ، لذا قررنا ان نعود الى بغداد لمدة قصيرة والرجوع ثانية الى السليمانية . انا وابنتي غادة وابو هافال في سيارتي ، والاخرون بسيارتهم ، غادرنا السليمانية فجرا ، وسلكنا طريق كركوك الخالص بغداد . وفي الطريق كنا نرى السيارات المغادرة من بغداد تجاه المنطقة الشمالية ، تقل العوائل الهاربة من بغداد التي تتعرض يوميا الى قصف مستمر .
في الخالص رأينا طوابير طويلة تجاوزت مئات الامتار من السيارات تنتظر دورها في محطات تعبئة الوقود . ودخلنا بغداد ، واتجهنا مباشرة الى بيتنا . تأكدت من وجود عبوات البنزين الاحتياط ، ثم بدأنا انا وابنتي بتنظيف المجمدات والثلاجات . وطوينا السجاد بانواعه ، واودعناها في غرفة المخزن التي اخفت غادة بابها ببعض الاثاث . وقضينا تلك الليلة تحت القصف الشديد وصافرات الانذار .
اما مكتبتي حبيبتي ، فلم استطع ان اقوم باكثر من جمع الاجهزة الالكترونية وتغطية الرفوف ومنضدة الكتابة . احكمنا غلق الابواب والمنافذ الرئيسية للدار ، كما تاكدنا من غلق المجاري وانابيب الماء والكهرباء قضينا اليوم الثاني في تهيئة دورنا لما يتطلب وتقصي ما حدث في محلّتنا.
في صبيحة اليوم الثالث نهضنا مبكرا ، وهيأنا معدات الشاي ، اذ اتفقنا مع زملائنا بان يكون التجمع في بيتي بالمنصور ، والانطلاق نحو السليمانية . قررت ان امر بسيارتي قبل ترك بغداد على مناطق مختلفة من بغداد كجولة سياحية ، للاطلاع على حجم التخريب نتيجة القصف الجوي والصاروخي . رأيت ان الكثير من الابنية الحكومية ، مثل بدالات الهواتف ومحطات الكهرباء ، قد اصابها دمار كبير ، كما تعرضت المنشآت الرئاسية الى قصف صاروخي مركز . تركت بغداد متأسفا على ما تعرضت اليه . واستمر سيرنا الى السليمانية التي تبعد عن بغداد زهاء 350 كيلو مترا ، وتوقفنا وقفات قصيرة لشرب الشاي ، حتى وصلنا في نحو الساعة التاسعة مساء .
العودة من السليمانية الى بغداد
بعد قضاء اسبوعين في السليمانية ، قررنا العودة الى بغداد ، بعد ان ادركنا ان القصف لايستهدف المدنيين الا في وقائع محدودة . ماهو طريق العودة ؟ سمعنا ونحن في السليمانية ان عدداً من جسور بغداد قد دمر ، والجسور الاخرى وضع عليها الاسرى الامريكان كدروع بشرية . قررت شراء دراجة هوائية تحسبا لعدم استخدام السيارة بسبب عدم توفر الوقود الذي بلغ سعر اللتر منه سبعة دنانير ، واحياناً يمزج بالماء غشا . اشتريت برميلاً سعة (200 لتر) من البنزين ليحفظ لدى صديقي رفيق قزاز ، قد نحتاج اليه في حالة تردي الامور في بغداد ، والعودة الى السليمانية .
حزمنا امتعتنا ووضعت الدراجتين الهوائيتين فوق السيارة ، وقررنا سلوك طريق كركوك تكريت بغداد ، حيث نصل الى جانب الكرخ مباشرة دون عبور جسور في بغداد . كان الطريق من السليمانية الى كركوك جبلي جميل ، وحركة المرور عليه شبه معدومة ، سوى عدد من السيارات التي تقل اسرا نازحة الى السليمانية الهادئة . وما ان وصلنا قريبا من كركوك ، شاهدنا اعمدة الدخان مرتفعة من المنشآت النفطية المحترقة نتيجة القصف الجوي . وعندما سرنا على طريق كركوك تكريت الذي يمر باراضي شركات النفط ، اسرعنا بالسير لكون تلك المناطق كانت مستهدفة .طريق كركوك تكريت يبلغ طوله نحو 120 مترا ، كان هو الاخر خاليا من المركبات الا القليل . وعندما دخلنا تكريت تبين ان الجسر على دجلة لم يزل سليما . كانت المناطق على الطريق شبه مهجورة ، ولم نر الا القليل من الناس ، ومنهم شرطي المرور الذي كان واقفاً تحت مظلته وسط تقاطع طريق كركوك تكريت مع طريق الموصل بغداد رغم قلة السيارات في الشوارع . ولا ادري لماذا هذا الشرطي المسكين يقف ولا حركة للمرور امامه . لعله الخوف من السلطة ، او الحرص والتفاني في العمل ، دفعاه الى القيام بواجبه كاملا ، في تلك الظروف الصعبة والخطيرة .
تركنا تكريت بسرعة ، واتجهنا جنوبا الى بغداد بمحاذاة نهر دجلة . كان دخان الحرائق الابيض او الاسود يرى من بعيد على الجانب الشرقي من النهر ، وعرفنا انه صادر من منشآت التصنيع العسكري التي تعرضت للقصف الشديد . عبرنا ناظم سامراء الذي تمر منه المياه الى مشروع الثرثار ، ولم تكن هناك الكثير من آثار الحرب على هذا الطريق ،حتى وصولنا منطقة التاجي ، فشاهدنا بعض معامل وزارة الصناعة ينبعث منها الدخان نتيجة القصف ، ومنها معامل حليب الاطفال وصناعة السيارات والغاز السائل . ولم تتعرض للقصف سايلوات الحبوب التي صممها مكتب ( الروافد للدكتور ناجي عبد القادر وهاشم حمزاوي ، ومعمل الطحين الذي صممه مكتبنا دار العمارة ) .
واخيرا وصلنا بغداد برحلة اكتنفها في بعض مراحلها الخوف والقلق ومشاهد الدمار ومآسي الحرب . وحمدنا الله عندما وصلنا البيت الذي كان كل شيء فيه على ماهو عليه .
من احداث تلك الحرب في بغداد ، ان جارنا السيد عباس السهيل ، وهو ابن شيخ بني تميم ، وزوجته ام جمال ، قد بقيا في دارهما بالمنصور ، والعديد من عوائل المنطقة رحلت الى حيث ما اعتقدوه آمنا . ومن هؤلاء الدكتور لبيب حسو الذي ترك مع اسرته البيت وسكنا منطقة الراشدية لدى زوجة عدنان خير الله وزير الدفاع السابق وابن خال الرئيس صدام حسين ، ولقي حتفه في حادث طائرة في عام 1989 . اذ يوجد بيتان لها وسط مزارع الحمضيات الواسعة ، وجزيرة وسط دجلة استغلت كمطار للطائرات العمودية لعدنان خير الله .
حضر صباح احد الايام الدكتور لبيب حسو وعائلته ، وهو كث الشعر ، قلق ، متوتر ، وهارب من دار زوجة عدنان خير الله ، حيث كان يقضي اوقاته مع عدد من اصدقائه ، ومنهم شريك عدنان المهندس( ابيكيان ) في احد البيتين ، وقد اقترحت زوجة عدنان ان ينتقلوا الى البيت الثاني لسبب ما . وما ان انتقلوا الى البيت الثاني وقضوا ليلتهم ، واذا باحدى الطائرات الامريكية تطلق صاروخا على البيت الاول وتقتلعه .. كانوا من المحظوظين ، اذ تصور الامريكان ان هناك اجتماعاً لاعوان صدام حسين فاستهدفته . حدثني لبيب بما جرى ، ثم انتقل الى مدينة كبيسة لاعتقاده ان المنصور غير آمنة ، الا انه عاد بعد ايام .
وفي وقت غروب احد الايام ، ونحن نراقب من حديقة البيت الصواريخ الامريكية من نوع (كروز) منطلقة في سماء بغداد الى اهدافها ، ومعنا لبيب حسو وزوجته ، واذا بتساقط فتات صاروخ انفجر في سماء منطقتنا قبل ان يصل الى هدفه ، فهربنا الى داخل البيت . وفي صباح اليوم التالي قمت مع لبيب بجمع شظايا الصاروخ .
القصف الجوي على بغداد ، كثيرا ما كان ليلا . والقصف القريب من المنصور كان يستهدف المخابرات العامة او بدالة المأمون ، وابنية قيادة حزب البعث او المنشآت الرئاسية المحيطة بالقصر الجمهوري . حدث في احدى الليالي ، في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ان هزت انفجارات عنيفة منطقتنا بقوة ، واهتزت معها الجدران والسقوف ، وتكسر زجاج عدد من الدور ، كانت ليلة مرعبة ، نزلت غادة من غرفتها في الطابق العلوي راكضة من هول الانفجارات ، فجلسنا في احدى الغرف واشعلنا الموقد للتدفئة والانارة لحين انتهاء الغارة .. كانت غارات مرعبة واصوات رهيبة حقا .
كان يومنا ينتهي بغروب الشمس ، اذ نلازم البيت ، وليست هناك وسيلة للتدفئة سوى ( صوبة علاء الدين ) والموقد في احدى الغرف . كانت ابنتي غادة تقوم بتهيئة الطعام والخبز على تلك الصوبة ، ونشعل الموقد لمدة ساعتين ، ثم يهرع كل منا الى فراشه في غرفته . في منتصف شباط 1992 والقصف على اشده لم يبق اي اثر للحكومة او السلطة ، فشرطة النجدة تفرقت سياراتها ، واختفى افراد شرطة المرور الا القليل ، وكانت دوائر الدولة قد توقف عملها منذ بدء الحرب . واختفى اعضاء الحزب . وعمال الاطفاء شبه مشلولين بسبب عدم وجود الماء ولا وقود السيارات . وبدأت علامات هزيمة الجيش ، والاخبار العالمية تتحدث عن انهيار الوحدات العسكرية في جبهة الكويت بعد ايام طويلة وقاسية من القصف الذي لم يعهده الجيش سابقا . وكان الكثيرون ينتظر وصول القوات الامريكية الى بغداد . واخذ الناس يخرجون الى الشوارع الفرعية والأزقة ويتجولون ويتحدثون بتطورات الاحداث ، كما اخذ الاطفال يلهون بدراجاتهم الهوائية ، و اخذ الهدوء يدب تدريجيا . واحس الناس بتخوفهم من فقدان السلطة وعدم معرفة ما سيحدث .
ذهبت بسيارتي الى مزرعتي في منطقة صدر القناة يوم 28 شباط 1992 ، في محاولة لتغيير الجو الكئيب ، والاطلاع على شيء جديد . وجدت القليل من السيارات في الشوارع ، وتنقل الاشخاص بسيارات اللوري واللوري القلاب . سألت طباخنا الكفء اسحق ، الذي كان يعمل لدينا ثلاثة ايام ولمدة اربع ساعات عصرا فقط ، عن كيفية وصوله الى المنصور من منطقة بغداد الجديدة . اجابني بانه يصل باللوري او المشي !
عند وصولي بسيارتي الى تقاطع جسر المثنى مع طريق سامراء ، رغبت بمساعدة عدد من المواطنين ، فاركبت معي ثلاثة اشخاص . بجانبي جلس احدهم ،وهو نائب ضابط ، فسألته عن اوضاع الجيش . اجابني بانه ينتمي الى كتيبة صواريخ قد صدرت الاوامر من صدام حسين بعودتها من الكويت الى احدى قرى تكريت قبل اعلان حالة الانسحاب ، فوحدته لم تتأثر بأمر انسحاب الجيش العراقي من الاراضي الكويتية خلال 48 ساعة كما اعلن صدام حسين لايقاف اطلاق النار . اما الشخص الثاني فقال انه جندي ووحدته في مصافي النفط في الشعيبة او قريبا منها ، وقد هرب مع اخرين بعد انزال للقوات البريطانية بالمظلات في تلك المنطقة ، وامرتهم بتسليم اسلحتهم والعودة الى اهاليهم ، فما كان عليه الا تغيير ملابسه العسكرية والهروب مشيا بالدشداشة من البصرة الى بغداد ، وهو في طريقه الى اسرته في الرمادي . والاخر هرب من الجيش وعاد من العمارة على لوريات نقل المواد ، ويريد الوصول الى كراج الكرخ . وسمعت العديد من القصص المشابهة لقصص هؤلاء .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة