د. جاسم يونس الحريري
لا يوجد شيء مستحيل في العلاقات الدولية، فلا توجد صداقات دائمة، ولا توجد عداوات دائمة، بل توجد مصالح دائمة، وعلى هذا الأساس يطرح التساؤل التالي:
ماهو سر التقارب السعودي – العراقي بعد إندحار عصابات داعش الإجرامية؟، وهل المستقبل بين البلدين يحمل بوادر تطور ملحوظ نحو إنتقال العلاقة من التأزم والشك والريبة نحو بناء أسس علاقات مشتركة تحترم مصالح كل واحد منهما تجاه الآخر؟.
الأمر الأول الذي يجب الإنتباه إليه هو، إن تفسير التقارب السعودي – العراقي ناتج عن وجود إرادة سياسية مشتركة، لإعادة ترميم العلاقات فيما بينهما، فالعراق يحتاج إلى أن تكون السعودية عامل إستقرار له للتفرغ لعمليات بناء المناطق المحررة، وإشراك دول مجلس التعاون الخليجي في ذلك بسبب مواردها المالية الهائلة، وكذلك يسعى العراق لإبدال الشك والريبة مع الجانب السعودي إلى تبادل ثقة، بمعنى آخر إستبدال خيار الصراع بالتعاون مادام يوجد تأريخ مشترك، ومصالح مشتركة بين الأثنين.
أما السعودية فهي تبغي من تقربها من العراق تغيير النظرة حولها، وخاصة من الجانب الأميركي الذي دائما ما يردد عبر مسؤوليه إتهام السعودية بتسهيل مرور الإرهابيين الذين يدخلون إلى العراق عبر سوريا للقيام بعمليات إرهابية لدوافع طائفية بغيضة، فضلا عن أن الجانب العراقي وخاصة الجانب الأمني والعسكري، كشف عن عدة دلائل لتورط مقاتلين سعوديين في تراجع الملف الأمني في العراق.
المهم أن أطر العلاقات بين الطرفين بدأت تأخذ طابعا وديا جديدا، ومشجعا لبناء علاقات إيجابية ومتينة، فزيارة السيد مقتدى الصدر، وقاسم الاعرجي وزير الداخلية إلى السعودية في تموز 2017، أعطت زخما جديدا للعلاقات فيما بين الطرفين، ناهيك، أن السعودية طلبت من العراق بناء أكبر قنصلية سعودية في الشرق الأوسط في مدينة النجف الأشرف! يوحي ذلك بوجود تغير في السلوك السعودي تجاه العراق عبر التقرب من مراجع النجف الأشرف، وفهم الواقع العراقي عن قرب، وليس البناء القائم على التحليلات، والإفتراضات غير الواقعية، يعني بمعنى آخر أن الجانب السعودي يريد أن يفهم مرتكزات المشهد العراقي وعلى رأسها التقرب من المؤسسة الدينية الشيعية لكون لها إحترام وتقدير وصدى وتأثير في المجتمع العراقي، وإحترام كبير من قبل القادة السياسيين، والكتل السياسية العراقية بجميع طوائفها ومشاربها، وهذا تطور مهم في فعالية السياسة السعودية تجاه العراق.
من جانب آخر، نزول الجانب السعودي إلى السوق العراقية من أوسع أبوابه من خلال المشاركة في فعاليات معرض بغداد الدولي بجناح ضخم جدا وذلك بتمثيل لـ60 شركة سعودية، ونتيجة لذلك حصد الجناح السعودي جائزة أفضل جناح مشارك بفعاليات المعرض سالف الذكر، وزيارة وزير الطاقة السعودي إلى بغداد، ثم التوجه إلى البصرة، وتشكيل المجلس التنسيقي الإقتصادي السعودي- العراقي، كل هذه المؤشرات تعطي للمراقب عدة دلائل على وجود تغير حاسم في مجرى العلاقات السعودية – العراقية.
ومن جانب آخر، أبدت السعودية سلوكا ملفتا للنظر وخاصة تجاه ملف الحج لعام 2017، حيث منحت السعودية العراق (5000) فرصة للحجاج العراقيين فوق نسبة العراق، وأصبح العدد الكلي (33,500) حاج بعد أن كان (25,000) حاج، وأستقبلت السعودية قوافل الحجاج العراقيين عبر منفذ عرعر الحدودي بحفاوة لم يسبق لها مثيل، وتم إستئناف الرحلات الجوية بينهما، وهبطت أول طائرة ركاب سعودية في مطار بغداد الدولي في 18 تشرين الأول 2017 وهي الأولى منذ 27 عاما.
ورصد المراقبون عدة مؤشرات من داخل السعودية وخارجها على وجود تغير في التوجه السعودي تجاه العراق، حيث قال فايز الشهري في صحيفة الرياض السعودية: «يشكل الدعم السياسي، والإقتصادي، ومواجهة الإرهاب، وحق الجوار، والأخوة أسس العلاقات السعودية مع أشقائها العرب، وهو الحال ذاته مع العراق الدولة والشعب الجار الشمالي لبلادنا، وعلى هذا المستوى تتحرك السياسة السعودية على الرغم من تأريخية تأثير عواصف السياسة، والبعد الأجنبي في علاقات العراق بجيرانها العرب».
وقال محمد الحمادي في صحيفة البيان الإماراتية: «إن السعودية ذهبت للعراق لتحديدها للتعاون، والعمل معا من أجل عراق أفضل، والعراقيون يعرفون تماما ليس للسعودية أطماع في العراق، وكل ما تريده هو الإستقرار للعراق، وعودته للحضن العربي، والتعاون من أجل محاربة الإرهاب والقضاء عليه».
ومن جانب آخر، يبدو أن التحرك العراقي تجاه السعودية بدأ يأخذ إطارا جديدا من التعاون، وهناك عدة مؤشرات حول ذلك، منها ما صرح به فيصل الهيمص رئيس مجلس الإدارة والقائم بأعمال الرئيس التنفيذي للمصرف العراقي للتجارة: «إن البنك حصل على موافقة شفهية لفتح فرع له في السعودية»، وذكر الهيمص، «إن البنك تقدم بطلب للحصول على رخصة فتح فرع في السعودية، وقد نال موافقة شفهية من مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما)».
العلاقات السعودية – العراقية تنتظرها الكثير من القفزات، وخاصة في المجال الإقتصادي سيما بعد إعادة أفتتاح مكتب شركة (سابك)، والسماح لشركة (سالك) السعودية الزراعية بالإستثمار في العراق، وإستفادة المملكة من المدن الإقتصادية هناك لتعزيز الإستثمار الزراعي في العراق، وتحقيق الأمن الغذائي للبلدين، وإتفاق الجانبين على تنمية الشراكة بين القطاع الخاص في البلدين، وتبادل الخبرات الفنية، والتقنية، ودراسة الجدوى الفنية، والإقتصادية لمشروع الربط الكهربائي، وتطوير الموانئ، والطرق، والمناطق الحدودية، ومراجعة إتفاقية التعاون الكمركي بين البلدين، وبدأ عمليات الإصلاح والصيانة تأخذ مجراها لتأهيل الطريق الدولي الرابط بين العراق والسعودية المعروف بأسم (طريق بغداد – مكة) البالغ طوله نحو7000 كيلو متر، ويمر عبر محافظة الأنبار غربي العراق.
وأتخذت العلاقات السعودية – العراقية طابعا مهما في المجال الأمني خاصة بعد زيارة الفريق الأول الركن عبد الرحمن بن صالح رئيس هيئة أركان الجيش السعودي إلى العراق في شهر تموز 2017، وعقد فيها مشاورات مع نظيره العراقي، وتم الإتفاق مع الجانب العراقي على أنشاء مركز أمني مشترك لتبادل المعلومات، والتعاون في المجال الأمني، وتأمين الحدود بين البلدين، و رد نظيره العراقي الفريق الركن عثمان الغانمي الزيارة، حيث تم تعزيز العلاقات بين البلدين في مجال مكافحة الإرهاب، وتبادل المعلومات الإستخبارية، إضافة إلى مناقشة التحديات، والظروف التي تواجه أمن المنطقة وسلامتها.
لابد من القول أن التقارب في العلاقات السعودية – العراقية لا يمكن أن يبتعد عن إنعكاساتها، وتداعياتها على العلاقات العراقية – الإيرانية، والعلاقات الإيرانية السعودية معا، حيث أن إيران والسعودية هما طرفان يحاولان أن يضبطا تحركاتهما في الساحة العراقية تحت إطار التعاون، والصراع، إلا أن شكل التنافس الإيراني-السعودي في العراق يمكن أن يتطور إلى الصراع خاصة أن إيران لها نفوذ وتأثير وعلاقات جيدة مع العراق سيما في الجانب الإقتصادي والعسكري وبعد أن وقع العراق وإيران في 23 تموز 2017 إتفاقية التعاون العسكري لمكافحة الإرهاب والتطرف، وهو يدخل في إطار شغل نفوذ إيراني محل الجانب السعودي في العراق وهو مؤشر قرأته بقية دول مجلس التعاون الخليجي وليس السعودية فحسب.
إن أي خطوة سعودية في العراق مهما كانت طبيعتها حتما ستواجه بخطوة إيرانية سواء كانت تمثل رد فعل على الخطوة السعودية أو تكون خطوة إيرانية إستباقية للخطوة السعودية أما لمنافستها أو لإزاحتها من المشهد العراقي، سيما أن التقاطع الإيراني – السعودي ماثل في أكثر من ساحة عربية (سوريا، اليمن)، بل أن التقاطع الفكري والمذهبي بينهما واضح إلا أن كل المؤشرات تشير إلى أن إيران والسعودية لا تريد إظهار كل تقاطعاتهما في الفترة الحالية لأنهما مشغولان بترتيب أوضاعهما، ونفوذهما داخل الساحة العراقية خاصة مع إقتراب الإنتخابات البرلمانية العراقية في مايس 2018، حيث يتصارع الطرفان الإيراني والسعودي لجعل مجساتهما في العراق ذوات تأثير ونفوذ لترتيب الأوضاع فيه وخاصة بين الكتل السياسية المختلفة السنية والشيعية وحتى الكردية وغيرها من الطوائف والأعراق لخوض الإنتخابات البرلمانية التي يتفق أغلب المراقبين والمحللين أنها ستكون مختلفة عن سابقاتها في 2010 و 2014 بعد تزايد الحراك الشعبي العراقي داخل المحافظات الوسطى والجنوبية، لإزاحة العناصر التي لم تثبت جدارتها في الدورات النيابية السابقة، ودعم كل الكفاءات، وخاصة غير الحزبية لخوض الحياة السياسية لرسم حركة إصلاحية شاملة في ضوء إمتلاء المشهد العراقي بالمزيد من الأزمات السياسية، والإقتصادية، والأمنية التي تحتاج إلى حلول وعناصر فاعلة لبدء مرحلة جديدة من البناء النفسي والإجتماعي والفكري والعمراني بعد إنتهاء تنظيم داعش الإرهابي.
* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2017 Ⓒ