يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 2
عبد الحق فاضل ويوسف
الحاج ومجلة ” المجلة ”
افتتح عبد الحق وزميله يوسف الحاج الياس – احد أقطاب الحزب الوطني الديمقراطي ومن مؤسسيه فيما بعد –مكتبا للمحاماة اثر فصلهما من وزارة الخارجية ايام تولي نوري السعيد الوزارة وبحجة تطهير الوزارة من العناصر السياسية غير المرغوب فيها . فأصدر مجلة “المجلة” الشهيرة التي ما لبثت ان استقطبت عددا كبيرا من احرار الفكر والادباء والشعراء المعروفين في انحاء القطر . كان بين الشعراء اكرم فاضل وانور خليل وانور شاؤول فضلا عن عبد الحق وبين كتاب القصة (ذو النون ايوب)، وطه الشيخ احمد العسكري الذي اذكر انه كان يذيل اقاصيصه بحرف (ط) وهو العميد الركن الذي قتل في دار الاذاعة مع عبد الكريم قاسم في انقلاب الثامن من شباط 1963 . وبين الباحثين والمؤرخين الذين دقت ايديهم باب الشهرة بتأليفهم ، الدكتور مجيد خدوري . الذي يشغل الان منصب رئيس قسم الدراسات الاستراتيجية الشرق اوسطية في جامعة جون هوبكنز بواشنطن والدكتور العالم الكبير عبد الجبار عبد الله رئيس جامعة بغداد في عهد (قاسم) والاديب والشاعر النجفي جعفر الخليلي والاستاذ سعد الديوجي، وكنت اصاب بنشوة كلما ظهرت لي كلمة او قطعة شعرية اذ اجد اسمي بين اسماء هؤلاء الذين يكبرونني مركزا وعلما وسنا . كانت صحبة هذين المحاميين الفكرية واحدة من اجل النعم التي جباني بها الله . ما اشعرني (عبد الحق )بفارق السن والنضوج العلمي ابدا وهو يأخذني في نزهات على القدم طويلة حتى تلال نينوى الاثرية يحادثني ويسمع مني كما يحادث ويصغي الى ند له ويفتح أمامي ابوابا من المعرفة في العلوم والاداب الغربية لاعهد لمطالعاتي بها من قبل .
لا اعتقد ان هذين المحاميين المثقفين الطاهري القلب واولهما عربي النجاد وثانيهما تركماني الاصل قد ارتكبا زلة خلقية في سائر ايام حياتهما وقد طواهما الردى . كان يوسف الحاج الياس بعد تخرجي ومزاولتي المحاماة خير مثال اقتدي به في التعامل مع الناس واداب المرافعة والاستزادة من الدراسات القانونية ، وفضل عبد الحق العودة الى السلك الدبلوماسي عندما طلب منه ذلك . وقلدته الحكومة الايرانية وسام الاستحقاق العلمي من الدرجة الاولى بعد ان نشر الترجمة الكاملة شعرا لرباعيات الخيام . وهي افضل ترجمة وادقها من سائر التراجم العربية بشهادة العلامة المصري الكبير (احمد امين) الذي قام لاول طبعة لها . في اثناء زيارتي الاولى لكردستان وقع نظري وانا اقلب الطرف في كتب احد وراقي دهوك – على مجموعة قصصه الكاملة وقد اعيد طبعها فهاجت بي لواعج الذكرى ، وكان نعيه قد بلغني وانا في السويد قبل اربع سنوات ، كيف كنت استقبل مجموعاتها بالتقريظ والتعليق وكلها مألوفة عندي . اذ كان ادبه الجم وتواضعه يأبى الا يسلمني اياها وهي مخطوطة لأقرأها قبل ان يدفع بها للمطبعة . وتقلبت به المناصب ارتفاعا . فكان اول سفير للعراق في جمهورية الصين الشعبية ايام (قاسم ) وأبى عليه خلقه العالي ان يواصل تمثيل البلاد بعد انقلاب الثامن من شباط 1963 ، فأستقال ومنع حق اللجوء السياسي في بلاد المغرب وكان موضع تجلة وحفاوة من ملكها الراحل . قال لي الدكتور الباحث جليل العطية ) نزيل باريس ان عبد الحق عاد الى الوطن وسقط ميتا على درجات كان يتوقلها ولم يشعر احد بنعيه وشيع منسيا تماما . وهكذا يكرم العباقرة الافذاذ عندنا .
لم يعد هناك من يشرف على تحرير المجلة ويتولى امورها بعد عودة عبد الحق الى الوظيفة واعتزم يوسف ايقافها ، الا ان (ذا النون ايوب) اصر على اصدارها في بغداد ونجح في نقلها ليتولى امر تحريرها هناك ووافق ذلك دخولي الكلية فواصلت الكتابة فيها .
وقتئذ وانا في الثانوية واجهت اول تجربة عملية في التحرير والنشر ، ففي نطاق الدراسة الثانوية كنت عضوا في الهيئة الادارية للجنة الادب والخطابة . واوكل الي امر تحرير نشرتها ويخطر ببالي اننا اتخذنا لها عنوان ” الثمرات الاولى ” وكان علي ان اشرف على تنسيق الكلمات والمقالات التي ستضمنها والاتفاق مع المطبعة والتصحيح وهي في الواقع مهمة كان المفروض ان نتقاسمها انا ورئيس اللجنة ابراهيم فيصل الانصاري ، وقد تحملت وحدي سورة سخط مديرنا الباطش جراء التأخير لان (ابراهيم) لم يكن في المدرسة اذ ذاك ونجا .
س: عفواً إن قاطعتك ، أتقصد إبراهيم فيصل الذي كان رئيساً لأركان الجيش؟
هو بعينه ، كان قد التحق قبل انتهاء الدراسة هو وكثيرون من طلاب صفنا بالكلية العسكرية . زملاء كثر تركوا الدراسة واختاروا الاحتراف العسكري ، سمت ببعضهم الرتب وكان منهم الصديق والزميل الوفي اللواء الركن احمد توفيق الصائغ ، الذي تولى في حين من الزمن القيادة العليا لقوات المواجهة مع الثورة الكردية (وكانت تسمى قيادة قوة الميدان ) . لا انسى قط الجهود التي بذلها ايام محنتي واتصاله الدائم بالاهل مواسيا ومشجعا . وعلى ذكر هؤلاء العسكريين لا يسعني اغفال الصديق العزيز (سليم الفخري) الذي التحق بالثورة الكردية بعد انقلاب الثامن من شباط عام 1963 وخدم فيها بأخلاص وتجرد وعانى في سبيلها ما عانى . ربطتنا صداقة الصبا وحرية الفكر ( لا العقيدة ) وارتفعت الى علاقة عائلية صحيحة . كانت علاقة لا تسمو اليها اي علاقة مع من قضى نحبه مع زملائي الذين اختاروا مهنة الحرب . وقد اشترط في الخروج عن حدود السؤال ، لكن لا املك نفسي من ذكر زميل اخر ادركه الاجل لمجرد علاقة بحكاية تعود الى ثورة بارزان في العام 1945 ، وقد سمت به الرتب الى قيادة فرقة على ما بلغني وهو اللواء الركن محمد نوري خليل وكنا نجلس على رحلة واحدة في الصف الثالث متوسط .ذات يوم وانا في مكتبي للمحاماة ، دخل علي محمد نوري هذا وهو ببزته العسكرية وبرتبة رائد ركن يستشيرني في قضية نزاع قضائي معقدة ولحظت على صدره شارة نوط الشجاعة فسألته مجاملا – ولم يكن بخاطري شيء عن الثورة يتعلق بالامر فقد كان مضى عليها ثلاث سنوات – اجاب قلدت الوسام لسبب موقف وقفته هناك في سفوح جبل بيرس : “فقد كنت امر بطرية مدفعية واحدق بنا الثوار وسقط من افراد طاقمي قتلى وجرحى وهرب الباقون وبقيت وحدي فما كان مني الا ونزعت عن المدفع الباقي الصالح مغلاقه خشية ان يقع سالما بيد المهاجمين ولست ادري كيف كتبت لي السلامة وانا اتسلل خارج مدى البندقية ” ، هذا ما رواه لي وما حفظته ذاكرتي ولعل احدا من ثوار العام 1945 الاحياء من يوثق هذه الحكاية . واعتقد ان في الجواب عن السؤال اكثر من الكفاية .
زملاء في الكلية : كامل قزانجي
س: دخلتم كلية الحقوق ببغداد في العام 1939 وزاملتم شخصيات عديدة كان لها الأثر الكبير في الحياة السياسية والثقافية العراقية ، نرجو ان تتحدثوا عن بعض هؤلاء وعن مواقفهم .
في الواقع كانت كلية الحقوق ملاذي الوحيد وفرصتي الأخيرة في التحصيل العالي فقد رفض طلبي للدراسة في الخارج على نفقة الحكومة ، ولم اكن قط متهيئا ذهنيا لاحتراف الحقوق ، حينذاك وخريجو البعثات الدراسية على كل حال لا مؤمل لهم غير التدريس ، الا المتخصصين في الطب او الهندسة منهم ، في حين تفتح كلية الحقوق ابواب وظائف ادارية وقضائية لمن فضلها على مزاولة مهنة المحاماة . في جو من الانطلاق الفكري والحرية التي يتميز بها هذا المعهد العالي عن ضبط المدارس الثانوية الصارم ، وفي صف اناف عدد طلابه على المائة والاربعين ، يصعب عليك الارتباط برابطة صداقة محكم كتلك الرابطة التي يتيحها لك صف لا يزيد عدد طلابه عن العشرين ، اقصد تلك الصداقة العميقة الجذور التي ظلت تربطني مثلا ب(سليم الفخري ) ، الا انك ستلقى كما لقيت وبصدف غير متوقعة ، رفيقا يشاركك الرأي او تطمئن اليه اثر لقاء عابر او حديث قصير او رأي يدلي به فيقع منك موقعا حسنا وبها تنشأ علاقة وثيقة غالبا ما يكتب لها الدوام . من الاخوان الاعزة . دام هذا الرباط على ما اذكر بالدكتور عبد الله اسماعيل البستاني ، الذي اصبح فيما بعد عضوا مؤسسا وبارزا في الحزب الوطني الديمقراطي واثبت له تاريخ البلاد نشاطا في الحقل الوطني السياسي ، وقد ادركته في العام 1959 وهو استاذ في كلية الحقوق فألحّ علي بالحضور في واحدة من محاضراته وفعلت . وزارني مرارا ايام رئاستي تحرير ” التاخي” في 1970 ، الصدفة الغريبة جمعتنا معا . لا ادري اي واحد منا كان اعتراضه على رأي ادلى به محاضرنا في درس الاقتصاد السياسي فأسرع احدنا بالدفاع عن الاخر وعلى اثر خشونة الرد من الاستاذ الذي الجأنا معا الى الخروج من القاعة احتجاجا وتلك كانت بداية العلاقة . وعليك ان تعلم ان ( عبد الله ) هو الاخ الشقيق لكل من عبد القادر اسماعيل ويوسف اسماعيل من ابرز أعضاء الحزب الشيوعي العراقي المؤسسين .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012