( 2 – 2 )
جيمس جيفري
توضح «استراتيجية الأمن القومي» أن الولايات المتحدة تواجه «ثلاث مجموعات رئيسية من المنافسين – وهي القوتان التعديليتان روسيا والصين، وإيران وكوريا الشمالية، والمنظمات التي تشكّل خطراً عابراً للأوطان، لا سيّما الجماعات الإرهابية الجهادية»، وكلّها «تنافس بنشاط ضد الولايات المتحدة وحلفاءنا وشركاءنا». بالإضافة إلى ذلك، هذه «صراعات سياسية بشكلٍ أساسي بين أولئك الذين يفضّلون الأنظمة القمعية ومَن يفضّلون المجتمعات الحرّة»، مما يجعل العالَم في وضعٍ معلَّق حيث لا يعيش الخصوم في حالة «سلامٍ» أو «حربٍ»، بل في «ميدان المنافسة المستمرة». وعلى الرغم من إقرار ترامب بهذه التهديدات هو اختلافٌ مرحَّب به عن «استراتيجية الأمن القومي» لعام 2015 (والتي، لكي نكون منصفين، تم إصدارها قبل إطلاق كوريا الشمالية الصواريخ البالستية العابرة للقارات وتدخل روسيا في سوريا)، إلّا أنّه يسلّط الضوء على كيفية تصديها للولايات المتحدة، وليس للنظام العالمي الذي تُديره أميركا.
إن عدم القدرة على إنشاء رابط بين هذين الأمرين تدفع إلى التساؤل حول ما الذي يُلزم هذه الدول على تحدّي واشنطن بهذا الشكل المباشر، بما أنه لا يبدو أن أحداً منها يسعى إلى الهيمنة العالمية الفعلية (باستثناء الصين، وهو موضوع قابل للجدل). والإجابة الواضحة هي أن هذه الدول لا تتحدى الولايات المتحدة بقدر ما تتحدى قيود «النظام الدولي القائم على القواعد الذي تقدّمه القيادة الأميركية»، وفقاً لما ورد في «استراتيجية الأمن القومي» الخاصة بأوباما. وإذا اعتبرت إدارة ترامب أن هذا النظام غير جدير بالذكر، ناهيك عن التأييد، فقد يتساءل المرء عما يوقف أمريكا وأعداءها من تخفيف حدة المخاطر المحتملة على بعضهما البعض من خلال تقاسم العالَم على غرار «مؤتمر فيينا» عام 1815.
إنّ الاستنتاج الأهم الذي يمكن استخلاصه من «استراتيجية الأمن القومي» هذه هو أن إدارة ترامب تُعلن موقفها رسميّاً وتؤيّد أمرين متناقضين على ما يبدو وهما: الرؤية المحورية التي تنحرف إلى حدّ كبير عن التركيز على «النظام العالمي» كالإدارات السابقة، ومجموعة القيم والأعمال المألوفة التي لا بد أن تخدم هذا النظام العالَمي. وإذا كانت الإدارة الأميركية تلتزم بهذه الاستراتيجية ككل، فستتماشى مقاربتها مع السياسة التقليدية التي اتُبعت على مدى السنوات السبعين الماضية (وأيدتها بشكل مدهش نسبة كبيرة من الأمريكيين في استطلاع للرأي أجراه مؤخراً «مجلس شيكاغو للشؤون العالمية»)، ولكن من دون أي حجة ملزمة وشاملة تدفع إلى القيام بذلك خارج نطاق «المصالح الأمريكية». حتى أن أسماء الأركان الأساسية في «استراتيجية الأمن القومي» يرتجع صداها قبل محاولة تجريد جهود هذه الاستراتيجية من الشعور القومي: «حماية الشعب الأميركي وأرض الوطن ونمط العيش الأمريكي»؛ و»تعزيز الازدهار الأميركي»؛ و»الحفاظ على السلام عبر القوة»؛ و»دفع النفوذ الأمريكي قدماً». كما أن اللائحة الطويلة من الأعمال المحددة التي تدعم هذه الأركان مألوفة أكثر، بالإضافة إلى التركيز الأكبر على الجوانب العسكرية والاقتصادية فضلاً عن ذكر التهديدات الصاعدة كالسيبرانية منها بكثافة أكبر.
ومن الجدير بالذكر أن العديد من المجالات قد جرت تغطيتها بشكلٍ سريعٍ جدّاً. فلم يستحق الشرق الأوسط إلا جزءاً واحداً قصيراً جُمعت فيه عناصر التوسع الإيراني وانهيار الدولة والإيديولوجيا الجهادية والركود الاجتماعي والاقتصادي والخصومات الإقليمية كمولّدات لعدم الاستقرار، من دون تقديم أي علاج ناجع. بالإضافة إلى ذلك، تصرف الوثيقة النظر عن مقاربتيْ بوش وأوباما (التحول الديمقراطي وفك الارتباط، على التوالي) في حين تقدم القليل كبديل عنهما، فلا تعِد إلّا بأن تكون «واقعية» فيما يخص توقعات الولايات المتحدة بشأن المنطقة – مما يشكّل نداءً خافتاً للتأهب.
وعلى أقل تقدير، تولّد «استراتيجية الأمن القومي» وردود الفعل المحلية الأولية إزاءها نقاشاً تشتد الحاجة إليه حول الحد الذي يجب أن تحافظ عليه الولايات المتحدة من النظام العالمي التقليدي. على سبيل المثال، كتب ديفيد فروم في مجلة «ذي أتلانتيك» مقالةً نقدية دولية كلاسيكية، وأشار بشكلٍ خاص إلى افتقار الوثيقة للتشديد على القيم الديمقراطية الخاصة بـ»القوة الناعمة»، التي يراها محورية للنفوذ الأمريكي. غير أن مبالغة إدارة بوش في التشديد على هذه القيم في أماكن كالعراق وأفغانستان كلّفت أمريكا ثمناً باهظاً – وهي مشكلة لم يعبّر عنها ترامب فحسب، بل أيضاً كثيرون من الجناح الدولي المناهض لترامب عموماً. حتى أن الرئيس أوباما تجنّب بناء الأمّة (بصرف النظر عن الجهود الفاترة التي بُذلت، والمتراصفة مع الطفرة الأفغانية) ولم يفعل الكثير لنشر القيم الأمريكية خارج ميدان الخطاب. ويستشهد فروم أيضاً بعدم شعبية ترامب كنتيجة التخلي عن نظامٍ مبني على القيم. لكنّ نقداً كهذا يفترض أن الدور العالمي لأمريكا يقتصر على الشعبية – وهي فكرة سيتصدى لها العديد من المراقبين بعيداً عن الرئيس الأميركي.
وفي النهاية، لا يمكن إطلاق أحكام على هذه «الاستراتيجية للأمن القومي» إلا من خلال مراقبة درجة تقيّد الرئيس الأميركي وكبار مستشاريه بها ككل. فإذا نفّذوها بحذافيرها، سيختبر العالَم نموذجاً خاصّاً بترامب فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية التقليدية. ولكن إذا أرادوا الانحراف عن تلك السياسة، فإن الوثيقة توفر ما يكفي من التبريرات لإطلاق مقاربةٍ مختلفة جدّاً للعالَم، كما أشار الرئيس بنفسه على الأقل عند إشادته ببوتين في خطابه الذي أعلن فيه عن «استراتيجية الأمن القومي».
*جيمس جيفري هو زميل متميز في زمالة «فيليب سولوندز» في معهد واشنطن.