هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث

د. فخري قدوري
الدكتور فخري قدوري من أوائل البعثيين في العراق يكشف في كتاب ” هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث” معلومات عن صدام حسين الذي جمعته به علاقة عمل فرضت ملاقاته يومياً لمدة ثماني سنوات، ويقدم صورة واضحة لشخصية متواضعة في البداية، ومنتهية بتسلط ونكبات متتالية، حسب تعبير المؤلف.
وفي الكتاب أوصاف دقيقة لأحمد حسن البكر وصدام حسين وجوانب من عاداتهما الشخصية لم يطلع عليها غير المقربين منهما.ويصف المؤلف كيفية انتمائه إلى حزب البعث وسيرته الحزبية وتجاربه مع رفاقه في الحزب “بعد أن أصبح الحزب في نهاية الأمر محكوماً من قبل شخص واحد وأصبحت تنظيماته تحت مظلة الإرهاب تنفذ رغبات الحاكم المستبد”.
“الصباح الجديد” تنشر فصولاً من هذا الكتاب نظراً لدقة المعلومات التي سردها الدكتور فخري قدوري حول مرحلة الاستبداد والتفرد وطغيان صدام حسين.
الحلقة 11
نجوت بالخروج من بغداد بعد قرار منع سفري
في 25/6/1982 – اليوم التالي لاستقالتي – اتصل السفير العراقي بي في منزلي بعمان مبديا الرغبة بزيارتي في الحال فرحبت , لأجده يعلمني بورود امر ملح التنفيذ من بغداد لسحب استقالتي . اخبرت السفير انني عازم على السفر الى بغداد لايضاح الامر . ولكن السفير سألني بالحرف الواحد : “هل يعني هذا انك تمتنع عن تنفيذ الامر الوارد من بغداد؟ ” اجبته بالنفي وأكدت على رغبتي بتوضيح الامر هناك اولا.
في اليوم التالي سافرت الى بغداد وتحددت مقابلاتي مع كل من طه ياسين رمضان (نائب رئيس مجلس الوزراء ) والدكتور سعدون حمادي (وزير الخارجية ) وثامر رزوقي (وزير المالية ) وحسن علي ( وزير التجارة ) وحكمت العزاوي (رئيس مكتب الشؤون الاقتصادية لمجلس قيادة الثورة).
كان ثامر هو المتميز بصراحته من بينهم فأعلمني بصدور قرار بمنع سفري من العراق بسبب الامتناع عن تنفيذ الامر بسحب استقالتي استنادا الى ما جاء بتقرير السفير العراقي .
وبعينين مليئتين بالحيرة والقلق اوضح لي ثامر المصير الاسود الذي ينتظرني في هذه الايام .
وسط تلك اللحظات الحرجة بدأ يرتسم امامي المستقبل المظلم المحيط بأولادي الثلاثة الذين تركتهم في عمان على امل العودة اليهم بعد ايام ,
فشعرت وكأني امام فيلم مرعب يمر امام عيني في لحظات , ما دفعني فورا الى تصنع تغييري الجذري للموقف , فأخبرته انني سحبت الاستقالة اثر زيارة السفير لي في عمان وقبل توجهي الى بغداد !
كانت تلك الكذبة هي التي انقذت حياتي واولادي , وسرعان ما لاحظت ملامح الارتياح ترتسم على محيا ثامر , فقد بدا وكأن هماً كبيراً ولى عنه , ليسألني – رغبة في التأكد – ” هل ان الاستقالة لم تعد قائمة؟ “. اجبته بنعم. واشار علي بعدم الحديث في هذا الموضوع بتاتا حين اقابل المسؤولين الاخرين , ووعد ان يبذل مساعيه لدى السلطات العليا لرفع الحظر المفروض على سفري .
وكان ما ساعد على تغيير موقفي امام ثامر كون كتاب الاستقالة الموجه الى ممثل دولة المقر (الاردن) يوم 24 حزيران / يونيو اعيد لي من قبل الوزير الاردني قبل ساعات من سفري الى بغداد منوها ان الاستقالة تخص مجلس الوحدة وليس دولة المقر .
هممت بتحرير رسائل الى الوزراء في المجلس , لكن ضيق الوقت بسبب السفر الى بغداد حال دون ذلك فأجلت الموضوع الى حين العودة . واستثمرت هذه الحالة – التي اعدها هدية من الله عز وجل – لأقول لثامر أنني سحبت الاستقالة .
لقد تعرفت فيما بعد على سبب اصرار بغداد على سحب استقالتي فيما انا شخص غير مرغوب فيه في بغداد كانت راغبة في ابقاء الامانه العامة بأيد عراقية , اذ كان تولى المهمة قبلي المرحوم د. عبد العال الصكبان – الاقتصادي العراقي المعروف – ثم توليت انا المهمة لخمس سنوات , وتريد بغداد مجيء عراقي للسنوات الخمس اللاحقة ايضا . وبذلك يكون مجموع المدد خمس عشرة سنه في الاقل من دون مراعاة حق الدول العربية في اختيار امين عام من بلد عربي آخر . لهذا رأت بغداد ان استقالتي قبل انتهاء المدة تعني ارباكًا لخططها . وقد تم لها ذلك فعلا وتولى المهمة بعدي السيد مهدي البيدي الذي كان يشغل منصب وكيل وزارة .
ويبدو من التطبيق ان ذهنية وراثة المناصب العربية تنطلق من ذهنية الوراثة العائلية لانظمة الحكم في غالبية البلدان العربية .
بعد اتمام مقابلاتي مع رمضان وثامر وحسن علي وحمادي والعزاوي توجهت يوم 30 حزيران /يونيو 1982 لمديرية السفر لاستحصال التأشيرة على جواز سفري طبقا للاجراءات السائدة . رحب بي الضابط المسؤول وقدم لي فنجانا من الشاي من دون أي معرفة سابقة به منادياً على مساعده لإجراء المطلوب . وبعد برهة عاد المساعد رافضاً ختم جواز السفر بحجة وجوب قيامي اولا بأملاء استمارات معينة لاخذ موافقات الجهات المختصة التي تستغرق اسبوعين او ثلاثة اسابيع . وكاد الامر يتطور الى مشادة بين الضابط ومساعده , وسمعت الضابط يخاطب المساعد بنبرة انفعال ( هل وضعت الاستمارات للدكتور قدوري وأمثاله ؟). اضطر الضابط ان يطلب من مساعده جلب الختم وقام بنفسه بالتأشير على جواز سفري فتوجهت على الفور الى المطار حيث كانت الطائرة تستعد للأقلاع بعد ساعتين .
وفي المطار مررت كما هي العادة , بقسم جوازات السفر , حيث كانت تلك لحظات عصيبة اخرى .
تصفح المسؤول الامني السجل الكبير امامه وتطلع الى الملاحظة المسجلة على اسمي بمنع السفر , ثم عاد يقلب الصفحات مرات عديدة ويقرأ ملاحظات لم استطع التعرف عليها , وبقيت واقفا امامه والعرق يتصبب من جبيني , فتلك دقائق قد تقرر مصيري .
ولمحت ضابط امن كان يراقب المشهد من بعيد مسرعًا بالمجيء نحونا ,
حيث اخذ الاثنان يقلبان الصفحات مرة بعد مرة . واخيراً اشار الضابط علي بالمرور بعد ان تحدث مع المسؤؤل الامني في اذنه بصوت منخفض لم افهمه .
وهكذا توجهت الى صالة انتظار المسافرين والقلق يحيطني من احتمال المناداة علي ومنع سفري . جلست في زاوية بعيدة عن الانظار لمدة ثلاث ساعات بسبب تأخر اقلاع الطائرة , بدت لي وكأنها دهر . ثم اقلعت الطائرة بعد منتصف الليل , ولم اتنفس الصعداء الا بعد ان عبرت الحدود العراقية , واقسمت في تلك اللحظة ان لا اعود الى بغداد ما دام هذا الوضع قائما .
في ليلة سوداء هربت من عمان الى ألمانيا
وصلت عمان فجر اليوم الأول من تموز /يوليو 1982 . وعند الظهر اوعز طبيب القلب بدخولي الى المستشفى فورا ومنع جميع الزيارات عني لمدة اسبوع بسبب حالتي الصحية القلقة للغاية . تلك كانت نتيجة زيارتي لبغداد والاجواء السوداء التي عشتها .
لم يبق على انتهاء مهمتي الرسمية في الاردن غير عشرة شهور تواصلت خلالها مشاكسات السفارة العراقية وبعض الحزبيين , واستمرت معها مضايقات الجهات الامنية الاردنية . اصبح الامر في تلك الفترة واضحا امامي : لا عودة الى بغداد , ولا بقاء في الاردن , والسبيل الوحيد هو السفر الى بلد يوفر لي الطمأنينة والحياة الامنة .
في تلك الفترة العصيبة كانت الاشادة بصدام جانبا مهمًا من بروتوكول التعامل مع المناسبات التي تمر بالعراق وتتابعها اجهزة المخابرات بدقة لتبني على اساسها كيفية التعامل مع هذا او ذاك . وتبعا لفهم هذا الموضوع النفسي الخطير كنت اسعى في مخاطباتي له ان ادون ما يريحه ولا يدعه يدون نقاطا سوداء , فيما كان الالم والمرارة يحزان في النفس كلما حان موعد تدوين شيء من هذا القبيل .
في يوم انتهاء عملي في عمان 30 نيسان / ابريل 1983 تقدمت بطلب الى بغداد لاحالتي على التقاعد , وكتبت الى بعض المسؤولين لتأييد طلبي من بينهم طه ياسين رمضان ونوري الويس وسعدون حمادي , لكني لم استلم اي جواب ما دفعني الى الكتابة ثانية , لكن العنوان هذه المرة كان صدام حسين .
نقل رسالتي شفيق الكمالي الذي سلمها الى حامد حمادي مدير مكتب صدام . وبعد اسبوع اعلمني شفيق هاتفيا ان صدام كتب على طلبي بالحرف الواحد :” هل له موقف من النظام ام النظام له موقف منه “!
وبصرف النظر عن صياغة التعبير كان شفيق راغباً في التأكد من احترازي من اليوم الاسود المبيت لي , فسألني والقلق ظاهر على صوته “هل فهمت الامر يا فخري؟”. اجبته بنعم ثلاث مرات . وفي وقت لاحق ذكرني شفيق بمفهوم ذلك التعبير : صدام هو النظام والنظام هو صدام!
اشتدت ضغوط السفارة العراقية علي للتوجه الى بغداد , فوعدت بذلك وهيأت كل ما من شأنه تقديم الانطباع بعودتي الى العراق . لكنني في واقع الامر كنت بحاجة الى بعض الوقت لتنفيذ خطتي بالتوجه الى اوروبا , تلك التي ابقيتها مكتومة حتى عن اقرب الاصدقاء .
طلبت من بغداد منحي اجازة اعتيادية لثلاثة شهور حتى يفرغ اولادي من امتحاناتهم المدرسية , فجاءت موافقة رئاسة الجمهورية على شهرين فقط كانت مناسبة لترتيب اموري , خاصة وان هناك شهر آخر يمنح في العادة لالتحاق الموظف المعارة خدماته للخارج .
في منتصف شهر تموز /يوليو اخذت السفارة تسأل عن موعد سفري وتتابع اجهزة المخابرات تحركاتي . ومن اجل التمويه اوصلت كتاباً رسميًا الى الخطوط العراقية بحجز مقعد الى بغداد ليطمئن الجميع لهذه (النية) . وفي الوقت نفسه توجهت الى الخطوط الالمانية وحجزت مقعدا للسفر الى المانيا قبل يومين فقط من الاقلاع .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة