جايك والاس
شكّل إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في السادس من كانون الأول/ديسمبر، الذي اعترف فيه بالقدس عاصمة لإسرائيل وبدء عملية نقل السفارة الأميركية إلى المدينة، تغييراً مفاجئاً وعميقاً في السياسة الأميركية المطبّقة منذ أكد بعيد والمرتبطة بقضية رئيسة تحتلّ موضع قلب في النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. وقد اتّخذ الرئيس قراره على الرغم من التحذيرات القوية التي أطلقها قادة عرب وأوروبيون، والتحفظات التي أبداها البعض داخل إدارته حول تداعياته .
جاءت ردود فعل الفلسطينيين حانقة وغاضبة، فدعت الفصائل الفلسطينية إلى التظاهر، وتساءل الرئيس محمود عباس عن أي دور مستقبلي للولايات المتحدة في دفع عجلة السلام في الشرق الأوسط. وفي ضوء هذه التطورات، هل ثمة أي طريقة يمكن أن يستمر فيها السعي من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط، أو ما أطلق عليه ترامب اسم «الصفقة النهائية»؟ للأسف، الأرجح أن الجواب لا، على الأقل ليس في ظل إدارة ترامب. فقد أدّت هذه الخطوة المتهورة إلى إلحاق ضرر بالغ بموقع الرئيس في أوساط الفلسطينيين، ومن غير المحتمل أن يقتنعوا الآن بأن يثقوا به كوسيط نزيه في المفاوضات مع إسرائيل. مع ذلك، لمّا يتبدد الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، إذ لايزال الطرفان يسعيان إلى الاعتراف والسلام، وهما هدفان لايمكن أن يتحققا إلا من خلال التوصل إلى حلّ تفاوضي نهائي لنزاعهما. ليس من السابق لأوانه البدء بالتفكير في كيفية الوصول إلى تلك النقطة .
قضية القدس هي «إحدى المسائل الأكثر خلافية» التي يتجنبّها السياسيون عادّةً في السلام الإسرائيلي-الفلسطيني. وجميع الرؤساء الأميركيين السابقين منذ عهد هاري ترومان، تعاملوا مع الأمر بحكمة وتجنّبوا المساس بها. هذه القضية بالغة الصعوبة والتعقيد، لأنها لاتتعلّق بالهويات الوطنية للجانبين وحسب بل أيضاً بالحساسيات الدينية للديانات التوحيدية الثلاث. وقد أعربت الحكومات الإسرائيلية والفلسطينية المتعاقبة عن مواقف صارمة ومتضاربة بشأن هذه القضية. بالنسبة إلى الإسرائيليين، تُعتبر القدس (داخل حدودها البلدية الموسّعة) العاصمة الموّحدة والأبديّة لإسرائيل. وبالنسبة إلى الفلسطينيين، لاسلام من دون دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. وبسبب الأهمية الدينية التي تحتلها المدينة، يُعرب الرأي العام من كلا الجانبين بشكل متزايد عن عدم استعداده للمساومة. مع ذلك، لايمكن إنهاء الصراع إلا إذا تمت المصالحة بين الموقفين غير المتوافقين. وقد بقيت الولايات المتحدة، بوصفها الراعي الرئيسي لجهود السلام على مدى عقود عديدة، متمسكة حتى الآن بالموقف القائل إن قضية القدس لا يمكن أن تٌحلّ إلا من خلال المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية .
يضع إعلان ترامب الولايات المتحدة بشكل واضح في الصف الإسرائيلي في هذه القضية الأكثر إثارة للانقسام، ولم يقدّم سوى القليل للتخفيف من وطأة الضربة على الفلسطينيين. صحيح أن الرئيس قال أيضاً إن الولايات المتحدة لاتتخذ موقفاً من أي قضايا تتعلّق بالوضع النهائي، بما في ذلك حدود الأراضي الإسرائيلية فى القدس، وإنه أمر يُترك للطرفين لحلّه، بيد أن اعترافه الرسمي بالمصالح الإسرائيلية في القدس، لم يقابله أي حديث عن المصالح أو الطموحات الفلسطينية في المدينة.
برّر الرئيس قراره قائلاً إن كل ما فعله هو الاعتراف بواقع يعرفه الجميع: فالحكومة الإسرائيلية موجودة في القدس الغربية، والمسؤولون الأميركيون وغيرهم يعقدون لقاءات العمل مع نظرائهم الإسرائيليين هناك. لكن هذا التبرير يغفل جوهر المسألة؛ إذ أن إعلان ترامب يعبّر فعلياً عن تبنّيه موقفاً يمكن اختزاله بعبارة: «ما أملكه هو لي، أما ما تملكه أنت فهو قابل للتفاوض». وهكذا، يتم القبول على نحو مطّرد بالوقائع الميدانية التي تفرضها إسرائيل – في القدس والضفة الغربية – تتقلّص تدريجياً آفاق التفاوض للتوصّل إلى تسوية تحظى بقبول الجانبين، ويتضاءل الدافع لدى الحكومات الإسرائيلية للجلوس بحسن نية على طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين، مادامت قادرة على نيل مبتغاها بشكلٍ أحادي بدعم من الولايات المتحدة.
الوضع القائم راهناً منحازٌ إلى إسرائيل، وبالتالي يرى العديد من الإسرائيليين أنه مامن حاجة في ظل هذه الظروف إلى تقديم تنازلات كبيرة لتحقيق السلام مع الفلسطينيين. لكن لاشيء يضمن بأن تواصل إسرائيل التنعّم لأجل غير مسمّى بالازدهار والأمن الراهنين، فيما يُحرَم ملايين الفلسطينيين من حقوقهم السياسية. فإعلان ترامب حول القدس، الذي يرى الكثير من الفلسطينيين أنه يُطفئ بارقة الأمل الأخيرة بتحقيق السلام عبر المفاوضات، قد يعجّل مجيء يومٍ لايعود فيه الوضع القائم مناسباً ومريحاً لإسرائيل.
نظراً إلى ردود الفعل السلبية حيال إعلان ترامب في أوساط الفلسطينيين وداعميهم، بات من الصعب جدّاً تصوّر المسار المحتمل لأي خطة سلام تضعها الإدارة الراهنة. ويتساءل الفلسطينيون عن حقّ كيف يمكن للولايات المتحدة أن تكون وسيطاً عادلاً في عملية السلام، بعد انحيازها لإسرائيل حول المسألة الأكثر حساسية، حتى قبل إطلاق المفاوضات، كما يستنتجون أيضاً أن الولايات المتحدة إنصاتاً للاعتبارات السياسية الإسرائيلية منها لحساسيات الفلسطينيين. وفيما ستبحث القيادة الفلسطينية عن سبل احتواء الضرر الحاصل والتمسّك ببصيص أمل للمفاوضات، ستتحمّل وزر ضغوط شعبية هائلة حتى لاتبدو أنها «تخلّت» عن القدس.
ما الذي يمكن أن يُعيد الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات مستقبلاً؟ الجواب البديهي هو أن يصدر بيان أميركي موازٍ يعترف بالقدس الشرقية عاصمةً للدولة الفلسطينية العتيدة. ما من خطوة أخرى قادرة واقعياً على منح الفلسطينيين الغطاء اللازم للعودة إلى كنف مفاوضات مع إسرائيل حول الوضع النهائي. لقد انتهجت روسيا هذه المقاربة الموازية في وقتٍ سابق من هذا العام حين اعترفت بالقدس الغربية عاصمةً لإسرائيل، مُعربةً في الوقت نفسه عن دعمها لطرح القدس الشرقية عاصمةً للدولة الفلسطينية العتيدة.
لكن هذه صيغة لاتستسيغها الحكومة الإسرائيلية، لأنها تعني فعلياً تقسيم القدس. ويُرجّح أنه لهذا السبب تحديداً لم يتبنَّ ترامب المقاربة الروسية في إعلانه، ومن المستبعد أن يتبنّاها في المستقبل. لذا يبدو أن مهمة المضي قدماً بهذه المسألة ستُلقى على عاتق إدارة أميركية أخرى؛ لكن سيتعيّن عليها أولاً البتّ بقضية القدس المعقّدة بسبب سلوك إدارة ترامب المتهوّر الذي أحدث قطيعة مع السياسة الأميركية السابقة. وبانتظار ذلك، لايسعنا سوى الأمل بألّا تتفاقم الأوضاع بشكلٍ يُطبق نهائياً على ماتبقى من الآمال القاتمة أصلاً حول تحقيق السلام.
* ينشر هذا المقال بالتفاق مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ٢٠١٤
لقراءة النص الأصلي٬ تبع الرابط التالي: http://carnegieendowment.org/sada