مارك بييريني
سيبقى يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر 2017 مطبوعاً في كتب التاريخ بأنه اليوم الذي تحطّم فيه حلمان بالاستقلال – بمحض الصدفة – في الوقت نفسه، لأسباب متشابهة إلى حد ما.
ففي ذلك اليوم، قدّم مسعود بارزاني استقالته بعد اثنَي عشر عاماً أمضاها رئيساً لإقليم كردستان، تزامناً مع مؤتمر صحافي عقده في بروكسل كارلس بيغديمونت، رئيس إقليم كتالونيا الذي أقالته الحكومة الإسبانية من منصبه في أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي. وكان المؤتمر بمثابة محاولة أخيرة بائسة لبيغديمونت الذي قال إنه سيمكث في العاصمة البلجيكية حفاظاً على أمنه وسلامته. كان هذان القائدان الشخصيتين الرمزيتين خلف الاستفتاء على الاستقلال في كل من إقليم كردستان وكتالونيا – في 25 أيلول/سبتمبر والأول من تشرين الأول/أكتوبر على التوالي. وقد انطلق الاستفتاءان وسط حماسة سياسية شديدة، وكان مصيرهما، في نهاية المطاف، الإخفاق السياسي. إذا كانت هناك من قواسم مشتركة بين الحالتَين، فهي تندرج ضمن فئتَين مختلفتين.
كان القاسم المشترك الأول هو الشعور الذي ساد لدى سكان كلٍّ من كردستان العراق وكتالونيا بأن «لحظتهم التاريخية» قد حانت، وبأنهم «باتوا على الخارطة العالمية»، وبأن الإكراه لن ينجح أبداً في جعلهم يعدلون عمّا يؤمنون به. علاوةً على ذلك، كان لدى عدد كبير من الأكراد العراقيين انطباعٌ قوي بأن الغرب مَدينٌ لهم لأنهم خاضوا قتالاً ناجحاً ضد الدولة الإسلامية.
تمثّل عنصر الشبه الثاني في الثقة المفرطة بالنفس لدى القائدَين، مادفهما إلى ارتكاب خطأ فادح في قراءة المشهد الدولي. لم يعر بارزاني آذاناً صاغية لا لنصائح واشنطن، ولا لتهديدات بغداد وقوى إقليمية على غرار إيران وتركيا. لعل جوست هيلترمان من مجموعة الآراء الدولية عبّر عن رأي الكثيرين عندما أشار إلى أن «الأكراد درجوا على امتداد فترة طويلة من تاريخهم على إساءة قراءة النوايا الأميركية». أما بيغديمونت، من جهته، فلم ينجح في أن يقيس بدقّة حجم الدعم الذي ستحصل عليه مدريد من العواصم الأوروبية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، في وقتٍ كانت متانة الاتحاد الأوروبي قد تعرّضت للتحدّي من الـ»بريكسيت» ومن الخلافات السياسية الجوهرية مع المجر وبولندا.
كذلك فشِلَ القادة الأكراد والكتالونيون في إدراك أن المنظومات السياسية السابقة سوف تسود، وذلك للسبب نفسه في الحالتَين: الخوف من المجهول. لو نال كردستان العراق الاستقلال، لتسبّب ذلك بهزّات ارتدادية تصل تداعياتها إلى إيران وتركيا، وكان ليعزّز ربما آمال الأكراد السوريين، فيما لو أُنشئت «جمهورية كتالونيا»، لانطلقت سابقة غير مرحّب بها في مناطق أخرى في إسبانيا وسائر دول الاتحاد الأوروبي.
نتيجةً لذلك، يجري كبح سلطات الحكم الذاتي واسعة النطاق التي تتمتع بها حكومة إقليم كردستان، كما تمّ تعليق الحكم الذاتي في إقليم كتالونيا، وأطلق القضاء الإسباني آلية قضائية لملاحقة المسؤولين الكتالونيين المؤيدين للاستقلال. في الحالتَين، سوف تعتمل مشاعر الإحباط والغضب على امتداد السنوات المقبلة. يؤمَل في هذا الإطار أن يتم احتواء العنف.
في حالة كردستان العراق، تلوح في الأفق تعقيدات كثيرة، إنما هناك أيضاً عوامل تصبّ في مصلحته، لقد فقدت حكومة إقليم كردستان السيطرة على الجزء الأكبر من الأراضي غير الكردية الواقعة خارج نطاق سلطتها الرسمية، ولاسيما كركوك وسنجار وخانقين. نتيجةً لذلك، خسر الإقليم أيضاً حوالى نصف إمكاناته التصديرية النفطية، فضلاً عن المشاكل البنيوية التي يعاني منها اقتصاده – والتي تتمثّل في الاعتماد المفرط على الصادرات النفطية والمنتجات المستورَدة، في التنمية الاقتصادية. وعلى ضوء الاضطرابات السياسية الراهنة، تبدو الآفاق الاقتصادية أشدّ قتامةً حتى.
بيد أن هناك اهتماماً شديداً من جانب الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، وروسيا وتركيا ودول الخليج بإعادة الأمور إلى طبيعتها في اقتصاد إقليم كردستان. لاتزال شركات أوروبية وأميركية وإماراتية وروسية تنخرط في مجال إنتاج النفط وتصديره، فيما تستمر تركيا في تشغيل خط الأنابيب الممتد من كردستان إلى محطة جيهان التي لم تغلقها، على الرغم من التهديد بذلك. بدورها، تواصل تركيا تعاملاتها التجارية مع إقليم كردستان، الذي يُعتبَر أحد أفضل أسواقها الإقليمية للسلع المصنَّعة ومواد البناء. وكانت الخطوط الجوية التركية تجني أرباحاً جيدة جداً من رحلاتها (المتوقّفة حالياً) إلى إربيل والسليمانية، كذلك الأمر بالنسبة إلى شركات الطيران الأخرى.
تلوح في الأفق مفاوضاتٌ عسيرة بين إربيل وبغداد، ولاسيما حول قضايا ضبط الحدود، وتقاسم الإيرادات النفطية، ودور قوات البيشمركة في المستقبل، وآليات تسوية النزاعات. فضلاً عن ذلك، وبعد استقالة بارزاني، أصبحت السلطة السياسية في إربيل منقسمة في الشكل بين مجلس النواب ورئيس الوزراء والقضاء، فيما أرجئت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لمدّة ثمانية أشهر. ونظراً إلى هذه الصعوبات الجوهرية، سيصبح الحوار أشدّ دقة وحساسية. وقد يتفاقم الوضع بسبب الرهانات السياسية الإيرانية في المنطقة والوضع السياسي الداخلي الدقيق في تركيا، الذي يحفّز راهناً سرديات ذات لهجة قومية حادّة.
سوف تشهد المرحلة المقبلة «تطبيعاً» للعلاقات بين بغداد وإربيل، لكنها لن تكون سهلة وبسيطة. من المخاطر المحتملة وقوع صدامٍ بين حكومة مركزية عراقية وبين الأكراد المحبَطين. وسيتعيّن على الأكراد الآن أن يبدأوا المفاوضات من موقع أضعف مما كانوا عليه قبل الاستفتاء. وفي الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، شدّدت حكومة إقليم كردستان على «الأهداف المشتركة للسلام والاستقرار والازدهار في المنطقة الأوسع»، وناشدت «شركاءها الإقليميين والدوليين تأدية دور استباقي في الحؤول دون وقوع مزيد من أعمال العنف، وإشراك إربيل وبغداد في حوار بنّاء من أجل تسوية المسائل العالقة كافة بما يتماشى مع الدستور».
الجدير ذكره هنا أنه لابدّ من تأمين مساعدة دولية محايدة، شرط موافقة الطرفَين، من أجل تحديد الطرق التي تتيح للعراق تأدية دور جديد في مايتعلق بالحدود الخارجية، فيما تعيد حكومة إقليم كردستان تنظيم السلطات التي تتمتّع بها في إطار الحكم الذاتي. لقد اكتسب الاتحاد الأوروبي خبرة في غرب البلقان في عدد كبير من المسائل العالقة في شمال العراق، ويمكنه تقديم الدعم الفنّي.
في حالتَي العراق وإسبانيا، لايجب أن تعمد الحكومتان المركزيتان في المستقبل إلى الثأر من داعمي الاستقلال، كما أنه لايجدر بالأكراد أو الكتالونيين التمسّك بالحنين الدائم إلى الاستقلال. يكمن التحدّي الحقيقي هنا في القدرة على الشروع في مفاوضات سلمية حول سبل العيش المشترك القائم على المساواة ضمن إطار سياسي يحترم هويات جميع الأفرقاء المعنيين.
* ينشر هذا المقال بالاتفاق مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ٢٠١٤