إمبرتو إيكو.. نشر غسيل الإعلام

كه يلان مُحَمَد

مع مضي المتلقي في متابعة وقائع رواية الفيلسوف السيميائي (إمبريتو إيكو) الأخيرة (العدد الصفر) 2017 عن دار الكتاب الجديد بيروت. يستعيدُ تلقائياً توصيف (هيغل) لدور الصحافة في العالم الجديد.
إذ قال صاحب مُنظر فلسفة الديالكتيك: أنَّ الصحافة بمنزلة صلاة للإنسان المُعاصر، تُضيء هذه المقولة ما كان للصحافة من أهمية مع تباشير العصر التنويري، إذ أتاحت الفرصة لوصول المفاهيم المعرفية لشرائح إجتماعية متعددة، غير أن ما تراه في رواية (العدد الصفر)، صورة مُختلفة تماماً.
يتناولُ الكاتبُ غياب المهنية، وتحول الصحافة إلى وكر، تُحاك فيه خيوط التآمر، هذا إضافة إلى أنَّ هناك من يتخذُ الصحافة مطية لتصفية حسابات مع جهات معينة، ويجندُ لهذا الغرض كتيبة من المحررين والصحافيين، الذين لا يستكنه أغلبهم ما يكمنُ وراء ظاهر الأُمور، الحالة التي تصبحُ محوراً لهذا المنجز الروائي، الذي يُبنى على طرز القصص البوليسية، ذات إيقاع مُتسارع، إذ يتضاعفُ عنصر الإثارة نتيجة تداخل الأحداث، وحضور شخصيات مُتباينة في الوعي والإهتمامات.
غير أن ما يتوخاه صاحب (إسم الوردة) مما يعرضهُ في سياق روايته، هو إبراز تدهور الصحافة، وما وصلت اليه المهنية من التدني والتراجع، وفي ذلك يتقاطع مع ما قاله نجيب محفوظ على لسان بطل (الشحاذ)، بأن غير صفحة الوفيات، لا يوجد في الصحافة ما يستوفي قيم الصدق والمهنية. تعتمدُ روايةُ (العدد الصفر) على خطين، من جانب يشدكَّ السردُ إلى تفاصيل مشروع إصدار صحيفة الغد.
كما تمشي مع ما يقصهُ برغادوتشيو عن فرضيته حول إختفاء شخصية موسولينى، وأنَّ من قُتل في التاسع والعشرين من أبريل 1945في ساحة لوريتو لم يكنْ إلا شبيهاً لـ(دوتشي).
ويستعيدُ بموازاة ذلك، جزءاً من تاريخ عائلته، فكان جدهُ قيادياً في النظام الفاشي، شنقوه المقامون، وعلى أثر ذلك يلتحق إبنه بالفيلق العاشر للبحرية الإيطالية، فالأخير يقتنع بأن المعارضين إختلقوا حكايات فظيعة لإدانة الفاشية، كما يشك في رواية تفيد بمقتل ستة ملايين من اليهود. هكذا تنتظم الأحداث والمرويات المتعددة، ضمن وحدات (العدد الصفر)

مشروع الصحيفة
تأتي أقسام الرواية مرتبةً على وفق تواريخ مُحددة، وهذا الأسلوب أقرب من فن اليوميات، إذ يفتتح الراوي القسم الأول بالإسترسال في الحديث عن هواجسه، ما يظهره في صورة شخصية مُطاردة، الأمر الذي يتأكد في نهاية الرواية، ومنْ ثمَّ يذكر إستفادته من جدته لتعلم اللغة الألمانية، وبذلك ترجم الكتب من تلك اللغة، ما سهل له تحمل كلفة الدراسة الجامعية، لمدة معينة، كما إلتحق بدورة اللغة الألمانية، مقترحاً موضوع دراسة عن سخرية لدي (هاينه).
ويحاولُ التحول من الدكتور دي ساميس، إلى فيريو، لكن الأصدقاء ينصحونه بالتمسك ب(دي ساميس)، فضلاً عن ذلك يشتغلُ مربيا لطفل ألماني، فالأخير كان محدود الذكاء، وإستمر في هذا العمل لمدة سنة، إلى أن تركه بسبب خلاف بينه وبين أم الولد.
وبعد ذلك إشتغلُ في مجال الصحافة، ونشر مقالات في الصحف المحلية عن النقد المسرحي، مراقباً عن كثب عالم الراقصات، ومن هنا تبدأُ تجاربه الجنسية الأولى مع مغنية.
لافتاً إلى إقامته في عدة مدن ماعدا ميلانو، إلى أنْ تشهدَ حياته منحى جديداً مع زيارته لميلانو، ملبيا دعوة سيماي، قبل ذلك إختبر تجربة الكاتب الظل (ghostwriter).
تردُ في هذا السياق أسماء كتاب الرواية البوليسية، مثل تشاندلر، أو ميكي سبيلان، وينتهي القسم الأول بالإشارة إلى تلقي عرض عمل في الصحافة من سيماي، فالأخير على ما يبدو شخصية غامضة، وكما يقولُ الراوي لا يُمكن أن تتذكر من سيماي وجهه، لأنَّه يتخيل إليك وجه شخص آخر ليس شخصه.
جدير بالذكر أنَّ المؤلف يمرر عبارات محملة بطاقة إيحائية، ما يحفظ شحنة التوتر لبناء العمل، وبهذا يشرك المتلقي في تصور السيناريوهات.
يتفاجأُ الراوي بما هو مطلوب القيام به، إذ يكلفه سيماي بكتابة مذكرات صحفي، عمل خلال سنة لإعداد جريدة يومية، والأغرب في الأمر أنَّ سيماي على علم دقائق حياة الراوي، ويبوح له بأن الأمر ليس أكثر من مقايضة مع شخص يمول الجريدة، وهو (الكومندتور فيمركاتي) صاحب عشرة فنادق سياحية، ويدير بعض المحطات التلفازية المشبوهة، إضافة إلى المطبوعات، ويهدف من وراء إصدار جريدة مستعدة لقول الحقيقة، الولوج إلى الصالون الرسمي للمال والسياسة، إذ ستصدر أعداد تجريبية من الصحيفة.
حالما يتسرب الخبرُ إلى وسط المتنفذين، يطالبونه بوقف مشروع الجريدة مقابل وجوده في الصالون الرسمي، فالموكل من جانبه سيدون يوميات جريدة لن تبصر النور لإبتزاز جهات معينة، مدعياً أن المشروع أجهض بفعل ضغوط كبيرة من أطراف لا تروق لها أصوات حرة.
إذ ستكون وظيفة الراوي (كولونا) مساعد الإدارة، ويقرر على دقة التعابير والمُصطلحات، ومن ثُمَّ يدور النقاش بين العاملين في الصحيفة لتحديد موضوع الصفحات، إذ لدى كل واحد منهم الخبرة في الصحافة، وثمة من إشتغل في صحيفة (العلاقات الحميمة)، أو كسب خبرة في الأبراج، وفقرات الألغاز، أو أخبار الطقس.
وما يلفت النظر في هذا الصدد، هو أساليب التحايل المتداولة بينهم، لإستفزاز أشخاص بعينهم، كما يتفقون على إستعمال لغة بسيطة، مقدرين سن متابعيهم بمن وصل خمسين سنة.
يطرحُ على طاولة النقاش يومياً مواضيع متنوعة، كما أن تطور العلاقة بين مايا وكولونا من جهة، وتوثيق أواصر الصداقة بين كولوناو برغادوتشيو من جهة أخرى، تشكلُ ركناً أساسياً في تركيبة العمل.

فرضية برغادوتشيو
يستأثر برغادوتشيو بإهتمام الراوي المتضمن (كولونا)، أكثر من غيره بإستثناء مايا التي تصبحُ عيشقته، على الرغم من فارق السن بين الإثنين.
وبما أن برغادوتشيو جاء من عائلة سياسية بإمتياز، ورث من والده رغبة التشكك في المعطيات السياسية، لذلك فبدلا من أن يشتغل على تقرير حول الماخورات التي كانت منتشرة في ميلانو، يبدأُ بجمع المعلومات عن ملابسات هرب موسوليني، ويقارن بين آخر صورة له، وما بقيت من صورة جثته، فضلاً عن متابعة نتائج التشريح، وما تفيد به بشأن الأمراض التي يعاني منها الزعيم الفاشي.
هنا تتوالى الفرضيات عن الجهة المنقذة للدوتشي، وإستشهاد بإسم أوتو سكوزيني، الذي أعاد الزعيم إلى سدة الحكم سنة 1943 من دون أن يحاكمه الحلفاء على ذلك.
أكثر من ذلك يفكر رغادوتيشو بالبحث عن جثة موسولينى في كنيسة سا ن برناردو التاريخية، متوقعا وجودها هناك، زدْ على ذلك، يتوقف برغادوتيشو عند الجرائم التي إنتسبت إلى اليسار الإيطالي، وضخمت في أثناء إحتدام الحرب الباردة، مع التلميح إلى إعفاء cia لشخصيات متضلعة في النظام النازي. ويأتي ذلك ضمن ما يسمى بـ(البقاء من الخلف) وهو عبارة أطلقت على خليط من الفاشيين والنازيين، تستفيد منهم أميركا لمحاربة الشيوعية.
تعجُ الرواية بأسماء شخصيات وجماعات سرية، ولكن ما يوفر عنصراً للرواية هو مصير برغادوتيشو الذي يعثر على جثته، الخبر الذي يكدر ما شعر به كولونا من لذة الحب مع مايا، ويسرع بنهاية مشروع الصحيفة، مع تلقي كل موظف مبلغا ماليا.
من المهم الإشارة إلى ان زمن الرواية هو سنة 1992 أي سنة بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، وما تبعه من مظاهر التسيب في بعض البلدان الأوروبية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة