عمرو صلاح
تُعد أزمة استقلال إقليم كتالونيا واحدةً من أكثر الأزمات التي واجهت إسبانيا استعصاء منذ عقود، أي منذ انتهاء حكم الديكتاتور الإسباني الجنرال «فرانسيسكو فرانكو» تقريبًا، خاصةً بعد أن واصل طرفا الصراع (الحكومة الكتالونية الداعمة للاستقلال، وحكومة مدريد الرافضة له) عمليةَ التصعيد السياسي مؤخرًا، إلى الدرجة التي دفعت كلا الطرفين إلى نقطة لا تُتيح مساحةً كافيةً للمناورة أو التراجع من أجل تجاوز الأزمة بعد أن أعلنت الجنراليتات (الحكومة المحلية للإقليم) في أكتوبر الماضي قرارها بإعلان الاستقلال بنحو منفرد، وهو ما دفع حكومة مدريد -في المقابل- للتحرك نحو فرض الحكم المباشر على الإقليم، وإصدار قرار توقيف لأعضاء حكومته المحلية، بمن فيهم «كارلوس بوجديمون» رئيس الإقليم.
خلفية الصراع:
عبر تاريخ ربما يمتد إلى نحو 1000 عام، تَشَارَكَ سكان إقليم كتالونيا تاريخًا مستقلًّا، وتحدث أبناؤه لغة مختلفة عن سائر المناطق المحيطة. وبناء على حالة التمايز الهوياتي تلك، فقد مُنح الإقليم استقلالًا مؤقتًا في عام 1932 بعد تأسيس الجمهورية الثانية. ولكن مع صعود الديكتاتور الإسباني الجنرال «فرانكو» إلى الحكم، تم إلغاء هذا الاستقلال، وقُمعت أية أنشطة أو ممارسات عامة ذات طابع قومي. وبعد وفاته مَنَحَ دستورُ إسبانيا الجديد عام 1978 -في فترة التحول الديمقراطي- الإقليمَ حكمًا ذاتيًّا، وإن كان الدستور قد أكد -في الوقت ذاته- أن الأمة الإسبانية لا تتجزأ.
ثم كان تطور آخر في مسار علاقة الإقليم بالدولة الأم في عام 2006 بعد مفاوضات طويلة وافقت فيها الحكومة الإسبانية على تحسين وضعية الحكم الذاتي للإقليم بإقرار البرلمان الإسباني ميثاق حكم ذاتي يُعزز سلطات الإقليم، خاصة المتعلقة بالمالية والقضائية، كما يصف الميثاق سكان الإقليم بـ»الأمة». وفي عام 2010، قضت المحكمة الدستورية الإسبانية بإلغاء أجزاء من الميثاق بعد أن ارتأت أن مصطلح «الأمة» كوصف للإقليم لا يحمل «قيمة قانونية»، وهو ما أعقبته حالة حراك في السنوات الأخيرة، وعمليات تعبئة للقطاعات الداعمة لاستقلال الإقليم، تحت شعارات قومية ومزاعم بضرر اقتصادي واقع على الإقليم من وجوده داخل إسبانيا.
نقطة اللا عودة:
منذ عام 2015، وبحيازة القوى المؤيدة للانفصال عن إسبانيا الأغلبيةَ في برلمان كتالونيا؛ عاد الزخم للحديث عن استقلال الإقليم ليأخذ بُعدًا جديدًا يتجاوز حالة التعبئة التقليدية غير الرسمية التي جرت في السنوات السابقة، بتحرك الحكومة المحلية للإقليم نحو اتخاذ إجراءات سياسية فعلية في سبيل تحقيق هذا الهدف، كان أبرزها إعلان البرلمان الكتالوني في 27 أكتوبر ٢٠١٧ انفصال الإقليم عن إسبانيا، وهو قرار جاء بعد استفتاء رسمي في بداية الشهر نفسه وافق فيه 90% من المُصوِّتين على الانفصال، فيما اقتربت نسبة المشاركة فيه من 43% من الناخبين المُسجَّلين. وقد كانت تلك الإجراءات مصحوبة بعملية تعبئة جماهيرية بمسيرات دعت إليها حركات داعمة للاستقلال ودعمتها الحكومة.
وفي مقابل تلك التحركات المحلية التي بدت أنها تتخذ طريق اللا عودة، وتغلق طريق المناورة أو التفاوض؛ كانت الحركة -على الجانب الآخر- تحمل سمات تصعيدية وحاسمة مماثلة. وهنا فقد كان قرار المحكمة الدستورية الإسبانية التي أعلنت عدم دستورية الاستفتاء قُبيل إجرائه، وأعلنت تعليقه قبل ساعات من بدء التصويت، وهو ما أعطى -بدوره- الشرطة الإسبانية غطاءً للتدخل اتسم بالعنف من أجل الحيلولة دون وصول الناخبين إلى مراكز الاقتراع، مما خلّف مئات المصابين.
من جانبها، تبنت الحكومة الإسبانية رواية عدم دستورية الاستفتاء وبطلانه. وبعد دقائق من إعلان كتالونيا الانفصال رسميًّا، كان قرار مجلس الشيوخ الإسباني باستعمال ما عُرف بـ»الخيار النووي» عبر تفعيل المادة 155 من الدستور، والتي تنقل إدارة الإقليم إلى حكومة مدريد، وتجعله خاضعًا لحكمها بنحو مباشر. ثم كان إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الإقليم «كارلوس بوجديمون» الذي سافر إلى بلجيكا، فضلًا عن وَضْعِ القيادات السياسية في الإقليم قيد المحاكمة.
أسباب الفشل:
عمليًّا، هناك مجموعة من العوامل التي أدت إلى عدم نجاح الإقليم في الحصول على استقلاله، وذلك على النحو التالي:
أولًا- الانقسام الداخلي: تُعد حالة غياب التوافق في الإقليم التي تُظهرها استطلاعات الرأي، وتباين المواقف، سواء على مستوى النخبة أو الجمهور، نحو فكرة الاستقلال كقرار مصيري؛ عنصرًا مهما في محاولة فهم المشهد في كتالونيا. وهنا، فإن كان الداعمون للاستقلال هم الأكثر تنظيمًا الآن، فإن هذا لا ينفي حقيقة أنهم ليسوا الأغلبية الساحقة في الإقليم، ولا ينفي كذلك غياب الإجماع داخل نخبتهم حول السبيل الأمثل (تكتيك ناعم أم خشن؟) لتحقيق الاستقلال المنشود.
وعلى الجانب الجماهيري، ينبغي التذكرة بأنه مثلما خرجت مسيرات ضمت مئات آلاف الداعمين لاستقلال الإقليم، فقد كانت هناك تحركات مضادة رافضة لفكرة الاستقلال، وقد نُظمت عمليات تعبئة مماثلة وإن كانت أقل زخمًا عبّرت عن فئات تضم مَنْ يحملون تصورات سياسية مناهضة لفكرة القومية، أو من يتمسكون بروابط كتالونيا مع المجتمع الإسباني، أو من يخشى مخاطر عدم الاستقرار أو التداعيات الاقتصادية السلبية في حالة تحقق الاستقلال فعليًّا، بما قد يؤثر على الأوضاع المعيشية للسكان. ولا يجب إغفال أن نسبة المشاركة في استفتاء الانفصال كاستفتاء مصيريٍّ قد مثّلت 43%، فيما بلغت نسبة المشاركة في قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مثلًا 73% تقريبًا.
ثانيًا- أهمية الإقليم بالنسبة لإسبانيا: بخلاف القيود الدستورية التي تَحُولُ دون استقلال الإقليم، كما أشرنا، هناك أبعاد أخرى تجعل تخلي إسبانيا عن سيادتها على الإقليم أمرًا مستبعدًا، أبرزها البُعد الاقتصادي، أخْذًا في الاعتبار حقيقة أن الإقليم الذي يُعد جغرافيًّا سادس أكبر منطقة في إسبانيا هو واحد من أغنى الأقاليم الإسبانية، مساهمًا بـ25.6% من الصادرات، و19% من إجمالي الناتج المحلي، فيما يضم 20.7% من الاستثمارات الخارجية لإسبانيا. وهو ما يجعله ذا أهمية حيوية بالنسبة لحكومة مدريد، ناهيك عن مخاوف أخرى لدى الحكومة الإسبانية من أن يُثير الانفصال نزعات انفصالية في مناطق أخرى من البلاد.
ثالثًا- معارضة القوى الغربية الفاعلة: في الوقت الذي راهن فيه أنصار انفصال الإقليم على دعم المجتمع الدولي؛ يبدو واضحًا الموقف المناهض الذي عبّرت عنه القوى الكبرى، خاصةً الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، وكلاهما اعتبر الأمر مسألة داخلية إسبانية. ويُلاحظ المتابع المخاوف الأوروبية من استثارة غضب مدريد التي تُعد لاعبًا في الاتحاد الأوروبي، ومخاوف من أن يستثير انفصال الإقليم نوازع انفصالية مماثلة في مناطق أخرى من أوروبا التي تشهد صعودًا قوميًّا مقلقًا خلال السنوات الأخيرة. وعلى وفق هذا المنطق يمكن قراءة تصريحات «جان كلود يونكر» (رئيس المفوضية الأوروبية) التي قال فيها: «ليس لدينا الحق في إقحام أنفسنا في هذا الحوار الإسباني-الإسباني»، وأكد فيها أن «الاتحاد الأوروبي ليس محتاجا لانقسام جديد وصدع جديد».
مستقبل الأزمة:
في لحظة شديدة التعقيد والصعوبة يتسم بها وضع كلا الطرفين المتنازعين، يمكن التنبؤ بمسارين للأزمة على النحو التالي:
أولًا- مزيد من التصعيد: أي أن يتجه الطرفان نحو مواصلة الخطوات التصعيدية انطلاقًا مما يملكه كل طرف من أوراق ضاغطة. ومنها لجوء مدريد نحو تفعيل القرار النووي بفرض الحكم المباشر على الإقليم، واتخاذ خطوات أكبر فرضًا لهذا القرار بالقوة وسط دعم ضمني تحظى به مدريد من المجتمع الدولي.
وفي المقابل، فإن ما تحدث عنه رئيس الإقليم المُقال حول أنه هو وحلفاؤه سوف يقاومون «ديمقراطيًّا» القرار، ودعواته بين حين وآخر إلى تظاهرات جماهيرية «للدفاع عن الجمهورية»؛ قد تعكس نية توظيف سبل المقاومة السلمية كأدوات تصعيدية، مثل: الاحتجاجات، والإضرابات، وتنظيم التجمعات الجماهيرية، وتجديد الدعوات لموظفي الإقليم لعدم اتباع أوامر الحكومة الإسبانية، وهي تحركات على الجانبين قد تزيد الأمر تعقيدًا، وتجعل مستقبل الحل مجهولًا.
ثانيًا- إعطاء مساحة للحوار: يرى البعض أن الانتخابات التي من المقرر عقدها في الإقليم في 21 ديسمبر المقبل، قد تكون مساحة لتغير مسار النزاع بالكامل، غير أن ما قد تُسفر عنه نتائج الانتخابات لا ينبغي تعظيم التوقعات بشأن إمكانية أن يقود إلى تغييرات جذرية في شكل النزاع، وإن كان من الممكن أن يعطي فرصًا أفضل للحوار بين أطرافه، قد يكون من نتائجه تحسين وضعية الحكم الذاتي في الإقليم كحل وسط.
وهنا ينبغي الإشارة إلى أن أغلب التوقعات حول نتائج تلك الانتخابات تنحصر في ثلاثة احتمالات؛ أولها تحسين الأغلبية الذين يؤيدون الانفصال، أو انتصار أولئك الذين يرغبون في البقاء في إسبانيا بفارق ضئيل، وهو ما لن يُتيح أيضًا مساحة للفعل السياسي لتغيير جذري في الموقف، أو ألا تختلف نتائج الانتخابات المقبلة عن نتائج وتوازن القوة الحالي في البرلمان الكتالوني. ومن ثم، فإن حلحلة الوضع تقتضي من الطرفين (أنصار الاستقلال وحكومة مدريد) تقديم تنازلات سياسية، وهو ما قد يتلاقى مع ما ألمح إليه وزير الخارجية الإسباني في تصريحات لهيئة الإذاعة البريطانية في 8 نوفمبر الجاري كشف فيها عن نية البرلمان «استكشاف إمكانية تعديل الدستور لاستيعاب طموحات بعض أفراد الشعب في كتالونيا بطريقة أفضل»، مُقرًّا بأن وضع كتالونيا «يستحق النظر»، لكنه -في الوقت نفسه- أكد أن «القرار الذي سيُتخذ يجب أن يُشارك فيه كل الإسبان».
وهنا، تنبغي الإشارة إلى أن مثول قادة الإقليم أمام القضاء، والتداعيات السياسية لحالة عدم استقرار الأوضاع على اقتصاد الإقليم، وبيئة الأعمال به، ومن ثمَّ تضرر إسبانيا ككل؛ قد تكون عنصرًا ضاغطًا على أطراف الأزمة للجلوس على طاولة المفاوضات خشية تداعيات الأزمة على الطرفين. وهنا فقد توقع البنك المركزي الإسباني في بداية نوفمبر احتمالية أن يفقد الاقتصاد الإسباني ما يصل إلى 60٪ من نموه المتوقع لإجمالي الناتج المحلي حتى أواخر عام 2019 إذا واصلت أزمة كتالونيا التصاعد، مؤكدًا -في الوقت ذاته- أن عودة الأمور إلى طبيعتها سريعًا «يُمكن أن يخفف من حدة مخاطر الاقتصاد الذي تأثر بنقل الكثير من الشركات والمصارف لمقراتها من الإقليم».
خلاصة القول، على الرغم من تحرك أطراف النزاع (الداعمين لاستقلال الإقليم من جانب، وحكومة مدريد من جانب آخر) نحو خطوات تصعيدية في أكتوبر الماضي، والتي يبدو معها أن مسار الأزمة قد بلغ نقطة التأزم؛ إلا أن هناك مساحات لانتزاع فتيل الأزمة بين الطرفين قد تلوح في الأفق، تحت ضغوط تجعل من استمرار عملية التصعيد محفوفًا بالمخاطر على مصالح الطرفين. وهنا فإن انتخابات ديسمبر وإن كان من غير المتوقع أن تقود إلى تغييرات جذرية في شكل إدارة النزاع؛ إلا أنها قد تُعطي مساحة للحوار عبر وساطة خارجية محتملة، أخذًا في الاعتبار ما أعلنته إسبانيا مؤخرًا -على لسان وزير خارجيتها- عن احتمالية إعادة النظر في الدستور الإسباني بما يستوعب الطموحات الكتالونية عبر حلٍّ مُرضٍ للشعب الإسباني ككل.
* مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة .