سلام مكي
قانون الأحوال الشخصية، من أكثر القوانين تأثيرا في حياة الأفراد، كونه يستهدف تنظيم شؤونهم الخاصة وعلاقاتهم الاجتماعية، وينظم حالات الزواج وآثاره وما يترتب عليه من حقوق وواجبات تجاه كل من الزوج والزوجة.. إضافة الى العامل الأهم والذي يتميز به عن غيره وهو عامل الحل والحرمة، حيث ان تطبيق هذا القانون على مسائل تنتج عنها آثار شرعية إضافة الى القانونية، في حين ان هنالك قوانين آخر تنتج آثارا قانونية فقط. قانون الأحوال الشخصية الحالي، وكما هو معروف للجميع، مصدره الأساس والوحيد هو الشريعة الاسلامية وهي ميزة أخرى له على اعتبار ان القوانين الآخرى مصادرها متعددة. وهو نتاج مرحلة تاريخية مهمة شهدها العراق، عقب سقوط النظام الملكي الذي كان القضاء الشرعي فيه مقسما الى سني وشيعي، فكان هناك الأحوال الشخصية الجعفرية والحنفية وكان القضاء في المحاكم الشرعية يجري وفقا للأحكام الخاصة بكل مذهب من المذاهب الاسلامية، وكانت هنالك محاولات لغرض اصدار قانون موحد للأحوال الشخصية، الا انها لم تفلح، حين مجيء العام 1959 الذي شهد تشريع قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 الحالي الذي تضمن أهم المبادئ العامة لأحكام الأحوال الشخصية مهتديا بقوانين البلاد العربية والاسلامية. اسهم هذا القانون، بتلافي أهم مشكلة يواجهها المجتمع العراقي وهي الطائفية، حيث وحدت أحكامه العراقيين، واسهم بردم الفجوة بين الطوائف، عبر اعتماد قانون يطبق على الجميع في المسائل الشرعية، ذلك انه عالج مشكلة تعدد الآراء الفقهية والاختلافات البينة في الأحكام الى الأخذ من جميع الآراء بما يتناسب مع وضع المجتمع وطبيعته، فأخذ شيئا من الفقه السني، وشيئا آخر من الفقه الشيعي. استمر القانون نافذا من دون محاولة تعديله في زمن النظام السابق، تعديلا جوهريا، ذلك ان النظام اكتفى بإضافة أحكام قانونية جديدة وتعديل أخرى من دون ان يمس جوهر القانون. بعد سقوط النظام، ظهرت محاولات لتعديل القانون او إلغائه، وتم وضع اساس لتلك المطالبات تتمثل بالمادة 41 من الدستور التي منحت العراقيين حق الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب معتقداتهم ومذاهبهم ولهم الرجوع الى تلك الاحكام دون القانون. هذه المادة الخلافية والتي تعني العودة الى زمن النظام الملكي، حاولت الحكومات المتعاقبة وضع قوانين استنادا اليها، وآخر تلك المحاولات هو القانون الذي يسمى ب قانون تعديل قانون الأحوال الشخصية الذي وافق عليه مجلس النواب من حيث المبدأ وأدرج ضمن جدول الاعمال لغرض مناقشته. هذا التعديل في حقيقته هو نسف او الغاء للقانون 188، الذي ألزم المحاكم بالرجوع الى أحكامه في جميع المسائل التي تتناولها النصوص واذا لم يوجد حكم بمقتضى مبادئ الشريعة الاسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص القانون. مشروع القانون وفي المادة الأولى يخالف هذا التوجه، حين يعطي الحق للخاضعين لأحكام القانون ان يقدموا طلبا للمحكمة لتطبيق الأحكام الشرعية الواردة في مذاهبهم، اما المادة الثانية فألزمت المحكمة باتباع ما يصدر عن المجلس العملي في ديوان الوقف الشيعي والمجلس العملي والافتائي في ديوان الوقف السني وتبعا لمذهب الزوج.. هذه الفقرة تخالف عدة مواد من الدستور منها المادة 14 التي نصت على ان العراقيين متساوون أمام القانون من دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او الدين او المذهب… في حين ان هذه المادة تميز بين الزوج والزوجة حين تجعل احكام مذهب الزوج هي التي تطبق من دون مذهب الزوجة. كما انها تخالف المادة 19 اولا التي تنص على ان القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون. حيث تجعل هذه المادة سلطانا على القضاء من دون القانون وهي السلطة التنفيذية ممثلة بديوان الوقف الشيعي والسني، حيث انها الزمت المحكمة باتباع ما يصدر عنهما من احكام. كما انها تخالف المادة 47 التي تنص على ان السلطات الاتحادية تمارس اختصاصاتها على وفق مبدأ الفصل بين السلطات. وهذه المادة تؤدي الى تداخل في عمل السلطات، وتمنح وظيفة القضاء الى السلطة التنفيذية. كما تخالف نص المادة 88 من الدستور التي تنص: القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء او في شؤون العدالة. وهذه المادة تؤدي الى ان يتدخل الوقفان السني والشيعي في شؤون العدالة. اذن: المادة الأولى من مشروع القانون، تخالف اربعة مواد دستورية، أما المواد الأخرى، فهي لا تقل شأنا عن المادة الأولى من حيث كونها تؤدي الى مخالفات وتناقضات في تطبيق القانون، بل تؤدي الى فوضى قانونية. الفقرة ج من المادة الأولى تجعل بدائل القانون هي: المشهور من الفقه الشيعي وفتاوى الفقهاء الاعلام وعند عدم الشهرة يؤخذ برأي المرجع الديني الأعلى.. الوقف السني عليه ان يطبق احكام المشهور من الفقه السني! المعلوم ان الفقه الشيعي يقوم على مبدأ الاجتهاد والمكلف يأخذ احكامه من المجتهد الذي يذكر الأحكام الشرعية في الرسالة العملية له، والمقلد ملزم شرعا باتباع ما يقوله المجتهد، بالتالي، لا يقبل ان تطبق عليه أحكام المشهور او فتاوى الفقهاء الأعلام، الا في حالة كونها متطابقة مع فتاوى المرجع الذي يقلده. وقد يكون المكلف يقلد مرجعا ليس هو المرجع الديني الاعلى، وآراؤه تخالف المشهور وتخالف فتاوى الفقهاء الاعلام، ببعض الجزئيات، والقانون هنا لم يمنحه الحق باتباع مرجعه. النتيجة هو فوضى في تطبيق أحكام القانون، وخصوصا وان تلك الاحكام غير مقننة في كتاب واحد يمكن الرجوع اليه، بل هي موجودة في كتاب الفقه والرسائل العملية للمراجع الدينية ويصعب حصرها في كتاب واحد، بل يستحيل ذلك. أما بخصوص ديوان الوقف السني، فالقانون اشار الى انه يطبق احكام المشهور من الفقه السني، ومن المعلوم ان الفقه السني، يعني الشافعي والحنبلي والحنفي والمالكي.. وهذه المذاهب تختلف آراؤها في المسائل الشرعية ولا يقبل أحد ان تطبق أحكام مذهب غير مذهبه على مسائله الشرعية.. النتيجة النهائية هو ان الفوضى والخلافات الشرعية والقانونية ستسيطر على الشارع العراقي، والاستقرار الذي يشهده القضاء في تطبيق قانون الأحوال الشخصية سيتحول الى منازعات وخلافات كبيرة، تؤدي في النهاية الى ضياع حقوق الأفراد وفقدان الثقة بأهم مؤسسة رسمية وهي القضاء، بسبب سلب حقها في القضاء.
*كاتب عراقي