كتب صالح جودت، وهو شاعر وروائي مصري راحل، ذات يوم عن همومه اليومية قائلاً : «ما ضر لو أن الدولة خصصت لي راتباً كريماً أتقاضاه من دون أن أجهد نفسي بالعمل ساعات طويلة، وأكون عندها قادراً على إنجاز ما كنت أحلم بإنجازه من كتب طيلة حياتي؟»!
هذه الكلمات التي تصرفت فيها تصرفاً غير مخل، علقت في ذاكرتي لسنوات طويلة، وكنت أظن أنها منطقية جداً، لفرط محبتي للرجل. لكنني اكتشفت في ما بعد أنها أبعد ما تكون عن المنطق. فليست هناك دولة في العالم تمنح راتباً دائماً لأحد مواطنيها مقابل رواية أو قصيدة أو أغنية! حتى الجامعات التي تمنح بعض أساتذتها تفرغاً لسنة أو سنتين لا تقبل أن يأتي هذا البعض حاملاً رواية (حداثوية) أو قصائد (نثرية) أو قصصاً (قصيرة جداً)! فهي تشترط أن تطلع على موضوع (البحث) قبل أن تقول كلمتها الأخيرة.
ربما تفعل الدولة مثل هذا لغرض ما، يصب في خانة الدعاية أو النفاق الإعلامي، ليس إلا. وأذكر أنني قرأت أن الاتحاد السوفييتي السابق أنعم على ميخائيل شولوخوف الحائز على جائزة نوبل عام 1965 عن روايته «الدون الهادئ» بإقامة مريحة في إحدى الجزر، فأثار هذا سخط زملائه الاشتراكيين، الذين عدوا هذه (المكرمة) إيغالاً في البرجوازية. مع أن مبلغ الجائزة بحد ذاته كاف ليضعه في مصاف هذه الطبقة!
ومما يروى عن الوزير نظام الملك (اغتيل عام 485 هـ) وكان رجلاً (مؤدلجاً) أنه أمر براتب دائمي للشاعر المعروف عمر الخيام، فأغناه عن طلب الرزق، وأتاح له الوقت الكافي للعمل والإنتاج. ولكن الوزير لم يتفضل عليه بهذه المنة لأنه شاعر، فبين الرجلين في الذوق والعقيدة والتفكير بون شاسع. ولكنه خصها به لأنه فلكي ورياضي وطبيب. وقد أنجز بتفرغه الكثير للدولة السلجوقية مثل بناء مرصد مراغة وإصلاح التقويم الفارسي القديم. وخلف مجموعة رسائل حل فيها معادلات جبرية من الدرجة الثالثة، واحتسب قيمة ربع الدائرة، وغير ذلك كثير!
لقد خسرت البلاد العربية ومنها العراق الكثير من الخبرات تحت ضغط الحاجة. وكان يمكن لهؤلاء لو لم تطحنهم غائلة العوز أن يغيروا من شكل الحياة ولو قليلاً. ولكن من يستطيع أن يلوم القانع والمعتر، على زهده بكل أشكال الثقافة؟
إن كتاباً واحداً في البلدان المتقدمة يمكن أن يمنح صاحبه الطمأنينة وراحة البال لسنوات طويلة، ويغنيه عن أي عون خارجي أو وظيفة مرهقة. وهذا هو السر في أن ما تخرجه المطابع هناك يمتاز بالثراء والغنى، ويتلقفه الناس في بلادنا بالفرح والابتهاج.
لكن مثل هذا لا يمكن أن يحدث لدينا في هذا الزمان في الأقل. فليس هناك ما يشير إلى أن اللهاث وراء لقمة الخبز سيتوقف يوماً. أليس بالخبز وحده يحيا الإنسان؟
محمد زكي ابراهيم
بالخبز وحده
التعليقات مغلقة