التناص ظاهرة اصطلاحية

علوان السلمان

ما أرانا نقول الا معارا
او معاداً من لفظنا مكرورا

هذا ما قاله الشاعر الجاهلي زهير بن ابي سلمى قبل 1400 سنة.. انه التناص بلا شك..الظاهرة الاصطلاحية التي تمس العملية الابداعية..بل وتحتويها وتوجه مساراتها.. كونها ممارسة تبرز من خلالها قدرة الكاتب على التفاعل مع نصوص اخرى.. وعلى انتاج نـص جديد..كما يقول سعيـد يقطيـن فـي كتابـه (الروايـة والتـراث السـردي)..
لقد برز مصطلح التناص في منتصف الستينيات من القرن العشرين على يد (جوليا كرستيفيا) التي عرفته( ان كل نص هو عبارة عن فسيفساء من الاقتباسات..)وهذا يعني انه عبارة عن حدوث علاقة تفاعلية بين نص سابق ونص حاضر لانتاج نص لاحق..انه بعد داخلي يتعالق فيه النص السابق مع النص اللاحق فيعكس ما يتضمنه النص السابق في اللاحق لانتاج نص جديد..
والتناص اما ظاهر ويسمى(الاقتباس الواعي او الشعوري).. واما خفي ..اذ يكون المؤلف فيه غير واع لحضور النص او النصوص الاخرى في نصه الذي يكتبه.. ويقوم هذا التناص على اساس التفاعل النصي..
وهذا يعني ان التناص قائم في كل خطاب يتقاطع مع خطاب آخر ليشكل تفاعلا يقوم على (تبادل الحوار) وهذا ما تبناه (باختين) الذي قال (التناص تعدد الاصوات) او (تفاعل نصي) ..
وقد اعتمدت (جوليا كرستيفيا) هذه النظرية (الحوارية) التي تنص على ان الحوار لا يقع بين المتحاورين وحسب وانما يحدث بين النصوص ايضا..وهنا يتم التوافق بين (رولان بارت وجوليا كريستيفيا).. في كون المؤلف ليس له دور في الابتكار..
فهو لا يفعل شيئاً سوى تكرار النصوص الاخرى..اذ يقول بارت( ما دام النص مجموعة من النصوص المتداخلة يتحول عبره المؤلف الى مجرد ناسخ ليس الا..) كما يقول الناقد فاضل ثامر في مقالته (النص بوصفه اشكالية راهنة في النقد الحديث) مجلة الاقلام 1992..
اما تودوروف في كتابه الشعرية فيؤكد ان التناص ينتسب الى الخطاب ولا ينتسب الى اللغة.. وهذا الخطاب اما احادي القيمة او متعدد القيم وهو بؤروة حدوث التناص..
لذا فالتناص هو النقل لتعبيرات سابقة او متزامنة.. او التقاطع والتعديل المتبادل بين وحدات عائدة الى نصوص مختلفة ..كما جاء في اصول الخطاب النقدي الجديد..
لقد اهتم تودوروف بالمبدع كونه يبتكر نصاً يحمل معنى مخالفاً للنص السابق..او يعيد صياغته وتفككه ثم يصبه في قالب محور شكلا ومضموناً فيحقق اثراء للنص الادبي من جهة واغناء للعملية الابداعية من جهة اخرى..
اما (رولان بارت) فالتناص عنده( اعادة النص لتوزيع اللغة..وكل نص هو تناص..وكل نص ليس الا نسيجا جديدا من استشهادات سابقة..) كما جاء في (دراسات في النص والتناصية )للدكور محمد خير البقاعي..
وهنا يتفق كل من تودوروف وبارت في ان النص الحاضر يستدعي مجموعة من الخصائص الخطابية مما يستهدف تعدد القيم..
اما (بول زمتور) فالتناص لديه يرتكز على انه(جدلية التذكر التي تنتج النص حاملة آثار نصوص متعاقبة تدعى هنا بالتناص..) كما جاء في اصول الخطاب النقدي الجديد.. والتناص لديه يسبح في فضاءات ثلاثة..
1ـ فضاء يتجدد الخطاب فيه بوصفه موضوعاً ..وهنا يعني (المؤلف) المكون للنص المتناص..
2ـ فضاء تتم فيه(القراءة) بحسب قانون جديد ناتج عن التقاء خطابية او عدة خطابات لملفوظ واحد..وهنا يمنح (زمتور) المتلقي دوراً كبيراً بوصفه منتجا للمعنى والتناص معاً..
3ـ الفضاء الداخلي الذي يبرز فيه الخطاب..وهذا يعني الكشف عن القيمة النصية للنص بوصفه نظاماً قائماً على شبكة علاقات داخلية تسهم في تناص النص بفضل (النمو والتوالد والتناسل) داخلياً..كما جاء في كتاب التناص في شعر الرواد لاحمد ناهم..
وهذا يعني ان العملية التناصية في فضاءات (زمتور) يتولى مهامها المؤلف بوصفه دالا والنص بوصفه مدلولا والمتلقي بوصفه مؤولا.. والنص ينمو في الفضاء الاول (المؤلف) ويتوالد في الفضاء الثاني(المتلقي ) ويتناسل في الفضاء الثالث(النص).. كونه الفضاءالذي يضم مجموعة من النصوص المتحاورة ..كما جاء في مملكة النص للدكتور محمد سالم سعدالله..
اما (يوري لوتمان) في كتابه(بنية النص الفني) فقد انصب اهتمامه على القراءة والنص بوصفه نتاجا.. وهو يقر بانفتاح النص على ما هو خارج فلا احالة الا بوجود هذا الانفتاح النصي الذي من خلاله يتسنى للقاريء ان يقيم العلائق ويصل المقطوع ويسد الفراغات بين النص المتناص مع النصوص الاخرى او مع الواقع الذي تكون فيه..وبذلك يبتكر نصاً مفتوحاً يتجدد فيه المعنى في كل قراءة ..كما جاء في التناص في شعر الرواد لاحمد ناهم..
وبذلك يتفق مع رولان بارت باعطاء الدور الفاعل للقاريء ويخالفه في المنتج (المؤلف) لان بارت يجعل من المؤلف ناسخاً.. في حين (لوتمان) فيمنحه دورا فاعلا فيجعل منه منتجا للتناص..اذ ان المؤلف لا يتمكن من تحقيق التناص في النص الا بوساطة القاريء الذي من شأنه ان يجعل من هذا القاريء ناقدا يتجه نقده لا الى النص والبنى النصية ..بل يتجاوزها الى البنى السياسية والاجتماعية والثقافية التي انتجت البنية النصية..كما يقول الناقد شجاع العاني في (التقريب وانفتاح النص في قص ما بعد الحداثة..)..
ومن هذا نجد بعد تأمل المثلث الابداعي ..
المؤلف (الدال)، النص (المدلول)، القاريء (المؤول)
ان (جوليا كريستيفيا) تهتم بالنص ..و(رولان بارت) يهتم بالقاريء المتميز الذي ينتج النص ثانية بعد موت المؤلف ليشعر بلذة النص..اما (لوتمان) فقد اهتم بثلاثي المثلث(المؤلف والنص والمتلقي)..
وقد وظـف مصطلح التنـاص فـي ميدان النقد العربي الحديث بداية الثمانينيات من القرن العشرين وبمصطلحات مختلفـة فمحمد عزام اطلق عليـه (النص الغائب).. مـع رؤية لا تختلـف عـن طروحـات (جوليا كريستيفيا ورولان بارت وتودوروف) ..اذ النص لديه ما هو الا اعادة كتابة وقراءة النصوص الاخرى الغائبة لانتاج نص جديد..وهو بذلك لا يختلف عما سبقه حتى في قوانين التناص( الاجترار والحوار والامتصاص) .. ويتفق معـه الدكتور عبدالملك مرتاض الذي يفهم التناص بانه (حدوث علاقة تفاعلية بين نـص سابق ونـص حاضـر لانتـاج نـص لاحـق..)
اما عبالله الغذامي فقد استعمل مصطلح (تداخل النصوص) او(التفاعل بيـن النصوص) كما جاء في (الخطيئة والتفكير).. ويوافقه في هـذه التسميـة سعيـد يقطيـن..فالتناص عنـده (نـص يتسرب داخـل آخر ليجسد المدلولات سواء وعى الكاتب بذلـك ام لم يع..) ..اضافة الى ذلك انه يرى ان التناص عبارة عن مصطلـح سيميولوجـي ـ تشريحـي ..بمعنى ان النص المتداخل هو وليـد السيميولوجيا..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة