«حرفٌ من ماء».. نمطية أمْ اختلاف

عباس السلامي
القسم الأول

من المؤكد أنَّ الكتابة عن تجربة الشاعر أديب كمال الدين ليست سهلة فهي تجربة ممتدة -عمرها أربعة عقود -،لذا تتطلب جهدًا كبيراً وقراءة مستفيضة لنتاج الشاعر، كما أنَّ الدخول إلى تجربة أي شاعر من خلال مجموعة شعرية واحدة لا يمكّن القارئ أو الدارس من الإحاطة إلاّ بالقليل منها، أضع أمامي هذا وأنا ألج ُ إلى تجربة أديب الشعرية ، غير المسبوقة إلاّ بــــ «قلة» من المعاصرين من بوابة مجموعته الأخيرة – حرف من ماء – الصادرة في بيروت عن منشورات ضفاف عام 2017م
اتخذَ أديب كمال الدين في مسيرته الشعرية الحرفَ –ولا خلافَ في ذلك عند كلّ من درسَ شعره -وسيلة لإستكناه جذور الشكّ في حياة مُدافة منذ البدء بالهموم والأسئلة، أسئلةٌ كثيرة وموجعة تلك التي نجدها-في هذه المجموعة والتي يقطرها حرف الماء جمراً على الشفاه،! ففي نص « تلك هي روحي ص93» هذا النص الذي يكاد أن يتفرَّد بأكثر ماتساءَل عنهُ الشاعر وكأنَّه اختصرَ أسئلته كلها!
(( سألني متى تتلفّت القصيدة ؟،
قلتُ حين تبحث عن حرفِ ينقذها مما هي فيه)) ومن ينقذ القصيدة لو حاصرها الجدب واليباس غير ذلك الحرف الذي يشكله الماء؟
ويتساءل (متى تستطيع القصيدة الطيران؟ قلتُ حين تكون أجنحتها من دموع.))
من هذا نتلمس إنَّ ما ينقذ القصيدة من سقوطها بدءاً هو حرف من ماء، وما يمكّنها من التحليق هو الدمع وهو نوع آخر من الماء، لكنّهُ الماء المسفوح وجعاً وخيبة! إذن هي
أربعة عقود مع الشعر يكويه جمره فيوشمه بالقلق، هذا الشعر الذي كانت الحروفية فيه هي الثيمة التي ينماز بها أديب كمال الدين، إذْ شكّلت بنية نصوص مجموعاته الشعرية كلّها، فهي الأساس الذي استند إليها في كتابتها، لذا جاءت قراءة نصوصه، أو دراستها نقدياً بنحو مغاير عن نصوص الشعر الأخرى. إضافة إلى أنّهُ لم يتخلَ عن الحروفية إذ واكبها ولازمته منذ إصداره الأول –تفاصيل-عام 1976! وهي تسير به عبر تجربة شعرية حداثوية!
((قال: هل ترى الشاعرَ كاتبَ نصوص؟ قلتُ: الشاعرُ مُطلِقُ راء الروح إلى فاء الفجر أو ميم الموت، وهو مكتشف حاء الحب وساحرُ باء البُعد « نص رفرفة جناح الطائر ص96»)) لهذا لا يكتب أديب كمال الدين / الشاعر نصوصاً كتابية فحسب بعيداً عما تشكّله الحروف من المعاني ،بل نراه -في بعض نصوص هذه المجموعة أذكر منها (هذيان/ تلك هي روحي/حوار مع الفرات /حين أحببتكِ فقدتُ نصف ذاكرتي/ تلك هي قصيدة الفجر – يأخذ بالحروف ليحلّق بها في دلالة ومعنى ما يكتب ،وسيتبين لنا ذلك في ما تحقق لا حقاً من إنَّ الشاعر لا يكتب لمجرّد أنْ يكتب، بل يستدعي فينا ما يكتشفه أو يستحضره من مواقف ترانا نمرّ عليها ونحن في غفلة.ويأتي دوره هنا فيأخذ بنا إليها في غفلة أيضا ولكنَّها غفلة لذيذة ومفيدة . إزاء المواجع و الأحزان التي تجثم في الروح ،نحملُ الذاكرة المفجوعة ،المسوّمة بوميض الحراب الغادرة ، والضاجّة بصراخ الانتهازيين/ القردة ،وعواء الذئاب / القتلة . نحن إذن بنا حاجة ملحّة بل ماسة إلى غفلة نتلمس فيها ما يعيد لأرواحنا هدأتها،غفلة يمكّننا الشاعرُ منها ، فنغلفّها نحن بالنسيان كي نحتمي بها من سطوة صحوة مستديمة مستبدة أثقلت الأرواح وأفزعتها .ففي أحد النصوص التي أشرت إليها آنفاً يقول : (( سأعلّم حرفي كيفَ يمسح كلّ شيء في الوجود حتى نفسه . فهذا أسهل من الغوص أبدَ الدهر في ذاكرة ملأى بوميض السكاكين، وعواء الذئاب ، وصراخ القردة ! نص « تلك هي قصيدة الفجر ص 25 هي دعوة ملزمة اذن للنسيان لتفادي الغوص في ذاكرة مجروحة .
من هذا نتوصل إلى أنَّ نصوص أديب كمال الدين لها وجهات متعددة، كلّها تصب باتجاه المتلقي أياً كانت ثقافته، وان كانت جلّ نصوص هذه المجموعة لا تحتاج إلى المتلقي النوعي ! على الرغم من أنَّه أراد لها فهماً خاصاً حيث يقول : (( قصيدتي لا يفهمها مَن لم يمسك بحاء الحرمان ويضعها جمرة على نقطة باء الحب ، ص116)) إذ يتبين لنا هنا استحالة فهم ما يكتبه الشاعر حسب قوله إلا إذا اكتوى بجمر الحرمان وهنا الفهم ليس بمعناه المعرفي بل بتلمس وتحسس تلك الدلالات التي يضفي عليها الشاعر مسحات عرفانية/ فلسفية بترميز ظاهر لا لبسَ فيه تفيد بأن هذا «الفهم» لن يتحقق أو يتم الا بشروط! ففكرة الشاعر المضمرة تفصح لنا بالقراءة إلى أن قبول النص والتلذذ بقراءته،غير فهم النص والتوجع من فكّ شفرته، وتلك الحالة التي يعوّل عليها الشاعر أكثر، هذا لا يعني أنهُ لا يرغب في أن تُقرأ نصوصهُ من العامّة على اختلاف مستوياتهم الفكرية،والثقافية.وهو يقدّمها لهم بلغة سلسة ، مستساغة مفهومة تجسّ احتياجاتهم كما في قوله:
(( لا يمكنك أنْ تكون عاشقاً حقيقياً، ما لمْ ترقص كالطفل الذي يرقص ليلة العيد أمام حذائه الأحمر الجديد)).
***
حروفية قلّبَ بها تاريخ القتل بقافه الممتدة من قابيل إلى آخر قاتل في تاريخ إنسانيتنا المنتهكة، ، ليشكّل منها كلمة السرّ/ أو كلمة النجاة التي مافكَّ طلاسمها «الملوك في ارض مابين النهرين ولا زعيم الفقراء» ،إلاّ ذلك الطاغية الذي اقترب من فكّ طلاسمها ولكنّه أخطأ في الحساب كعادته» ليلتفّ الحبل على رقبته ،- وهي إشارة لما حصل في العراق بعد 2003- ذلك الحبل الذي نسجَهُ الطاغية بيده ولطالما أزهَق به أرواح الآلاف من العراقيين على مدى أربعة عقود ، وهذا ماجسّده في نص «لم أسأل عن كلمة السرّ ص32» ((كلمة السر التي لم يعرفها ملوك النهرين فَقُتلوا…..وكان على وشك أنْ يفكّ طلاسمها طاغية العصر، اذ عرفَ من أحرفها قاف القتل ، وراء الرعب ، وحاء الحروب ، لكنّهُ أخطأ في الرقم الثالث بعد الألفين «
أمعنَ الشاعر كثيراً في حروفيته فمارس عبرها سطـوة معرفية ، وتلك أوقعته في خطابيـة شبه مكررة، ،لهذا أجدني أسْتَشْعِرها كقارئ ،وأتلمس الانطبـاع الذي تولِّـدهُ عنـدي تلـك السطـوة بالقـراءة وأنـا أتسـاءلُ في سـرّي أولاً هـل الحر وفيـة أخـذت أديب كمال الدين بعيداً عنهُ وعن القـارئ الذي تنمَّط علـى قـراءة حروفيتـة ؟ وثانيـا أين أضـع لو خيّـرت مجموعـة «حرف من ماء» في تسلسل نتاج الشاعر – التي هي الآن تمثل آخر ما أنتجه في تجربتـه الحروفية – وهل هناك خلل فيمـا لـو وضعـتُ لها تاريـخ صـدور سابـق؟

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة