هنتغتون وأشياء أخرى

لم يكن بوسع الإنسان وهو يضع أقدامه على سطح هذا الكوكب، ويتمدد فيه طولاً وعرضاً، أن يدرك مغزى هذه الخطوة، وينتبه إلى ما ستخلفه من آثار. ليس ذلك لقصور في عقله، أو خلل في تركيبته، فقد ثبت أنه كان يفكر بروية، ويكدح دونما كلل. ولكن سبب ذلك على الأرجح أن رجلاً مثل صموئيل هنتغتون لم يكن قد ولد في ذلك الحين. وأن كتابه صدام الحضارات (بكسر الصاد) لم يكن قد أخذ طريقه للمطبعة بعد !
قد يبدو الأمر للوهلة الأولى مزاحاً من نوع ثقيل. فالتوزيع غير المتقن للمجتمعات، لم يخترعه هنتغتون، ولم يدع إليه في يوم من الأيام. وكذلك فإن خطوط الصدع لم تكن من وضعه هو على الأرض، لأنها جزء من النتاج الثقافي لهذه المجتمعات. وكل ما فعله هو أنه أعطاها اسماً، وتحدث عنها بقدر من الحرفية. وليس دوره سوى إعادة اكتشافها، وتوجيه الأنظار إليها .. لا غير!
ولا شك أن القارئ مهما اختلف معه في الرأي، لا يستطيع إنكار التنافر التاريخي بين الأمم على أسس دينية أو عرقية. ولا يمكنه تجاهل الحروب الكثيرة التي نشأت بسبب هذا الاختلاف. ومع ذلك فإن كثيرين عدوا هذا الكتاب دعوة مباشرة إلى تجديد هذه المواجهة بوصفها قدراً لا مفر منه. وبدأ الناس يكيلون الشتائم لهنتغتون، ويحملونه مسؤولية ما يجري كل يوم من دمار. ولست أظنه برم بهذه النتيجة. فقد منحت الشتائم كتابه شهرة عالمية. فترجم إلى نحو أربعين لغة، وبيعت منه ملايين النسخ. ودخل في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً.
وقد قابلت المجتمعات الشرقية الكتاب بقدر كبير من الامتعاض. لأنها تتوق بشكل عام إلى تغيير العلاقات بينها وبين الغرب، وليس إلى تأكيد الفوارق الثقافية معه. ولم تنتبه إلى أن مثل هذا الأمر ليس بيد كاتب مثل هنتغتون، أو كتاب مثل صدام الحضارات.
لا شك أن «الكتاب» هو أحد أهم وسائل التغيير في العالم. مثلما أن رصانة الفكرة ليست شرطاً من شروط هذه الميزة. فطريقة العرض، وقوة الحجة، وبلاغة الأسلوب هي أكثر أهمية منها أحياناً.
وهذه هي بالتحديد خطيئة هنتغتون الكبرى.
إن كثيرين في الشرق، وفي البلاد الإسلامية خاصة كانوا يفكرون بهذه الطريقة. ولكنهم كانوا عاجزين عن التعبير عنها بهذا الشكل. وغير قادرين على وضعها في إطار جاذب كهذا.
لم أزل أؤمن أن الكتاب هو الوسيلة الأشد تأثيراً في هذا الكون، لأنه في الأصل خلاصة تجربة إنسانية طويلة. ولا بد أن نتوقع صدور كتب أخرى مثيرة للجدل مثل صدام الحضارات، مادامت هذه التجارب قائمة ومتواصلة.
محمد زكي ابراهيـم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة