علي الشرع
يجري التركيز في السياسة النقدية الحالية للبنك المركزي العراقي على وصفة خاصة -لأقتصادات مرّت بظروف الاقتصاد العراقي نفسها مثل الاقتصاد الارجنتيني -يجري تنفيذها عبر ما يطلق عليه بـ (مزاد العملة)، والهدف من الاخذ بهذه الوصفة هو ضبط تحركات معدل صرف العملة المحلية بالنسبة للعملات الأجنبية ضمن المعدل المستهدف Exchange rate target من اجل المحافظة على استقرار الأسعار في هذه الاقتصادات، وإيقاف الهبوط المستمر لقيمة العملة المحلية إزاء العملات الأجنبية. حيث ان لهذا الهبوط في قيمة العملة المحلية لبلد ما انعكاسات سلبية متعددة وواسعة على الاستثمار والنمو والتوقعات الخاصة برجال الاعمال فضلا عن انخفاض في مستوى الرفاهية (تدهور في القدرة الشرائية للأفراد).
وبجانب هذه الوصفة تستعين السلطات النقدية بأدوات أخرى تكميلية معروفة في نظرية السياسة النقدية مثل معدل السياسة وعمليات السوق المفتوحة من اجل التأثير على كمية النقد المعروضة من الدينار في السوق المحلي للحد من توجيه النقود الفائضة تجاه المزيد من الطلب على الدولار.
وان كان معدل السياسة مثلاً ليس فعالا بما فيه الكفاية في التأثير على هيكل معدل الفائدة السائد في النظام المصرفي العراقي لاعتبارات تتعلق بالبيئة الاجتماعية التي لا تشجع على التعامل بالفائدة المصرفية لأسباب دينية، وهو امر مهم قد نلقي عليه الضوء في مقال مستقل لاحقاً.
وسيكون تركيزنا في هذا المقال مقتصراً على مسألة السيطرة على معدل صرف الدينار عبر نافذة العملة كونه الأداة الحالية الفعالة التي تظهر اثارها بسرعة وبنحو مباشر على ضبط تحركات سعر صرف الدينار، وتلقي بظلالها على مشهد الحياة اليومية في العراق. فالفرد العادي يشعر ويتابع باهتمام ساعة بساعة بما يحدث لسعر صرف الدينار والتقلب فيه أكثر من معرفته او متابعته لعمل بقية أدوات السياسة النقدية مثل معدل السياسة وما تفعله بخصوص المحافظة عل استقرار الأسعار وسعر الصرف. كما ان إدارة بقية أدوات السياسة النقدية قد يكون بعيد عن شبهة الفساد، فرفع وخفض معدل السياسة او بيع وشراء السندات في عمليات السوق المفتوحة قد لا تتضمن عمليات تلاعب بتدفقات الأموال كما هو حاصل في مزاد العملة، فأضحت السياسة النقدية في العراق وكأنها تعني عملية إدارة سعر الصرف؛ ولهذا السبب كان عنوان المقال عامّاً بينما كان التركيز فيه على أداة واحدة من أدوات السياسة النقدية وهي إدارة سعر الصرف.
وتطبيقاً لهذه الوصفة يقوم البنك المركزي بعرض العملات الأجنبية وبالخصوص الدولار عبر نافذة (مزاد العملة) تاركاً قيمة العملة المحلية كي تتحدد -من الناحية النظرية على الأقل- من خلال تفاعل العرض والطلب الذي يفترض ان يعكس حاجة السوق المحلي للدولار. وفي الواقع، فأن مزاد العملة في جوهره هو مزاد شكلي مهما قيل ان هناك عروضا بأسعار مختلفة تُقدّم للبنك المركزي من المشتركين المسموح لهم بالدخول الى المزاد؛ لأن معدل صرف الدينار- نسبة الى العملات الأجنبية ومنها الدولار- كما يظهر في البيانات لا يتغير بل هو ثابت عند معدل واحد وكأنه محدد ادارياُ ولا يعكس حقاً ندرة العملات الأجنبية في السوق المحلي. ولا يمكن الاعتماد بنحو كبير على سعر الصرف في السوق الموازي (السوق السوداء) لقياس هذه الندرة نظراً لوجود دور واضح للمضاربة في التحكم بسعر الصرف فيه.
خطأ تعويم الدينار في الظرف الحالي
ولا يعني بطبيعة الحال ان هذا المقال يدعو الى تعويم قيمة الدينار وترك قوى السوق تتفاعل فيما بينها كي تحدد سعره في ظل اقتصاد لم يتعاف بعد ويركب سكة الاستقرار، بل بالعكس انا ضد دعوات واقتراحات من هذا القبيل تخرج من حين لأخر تطلب من البنك المركزي تبني سياسة كهذه. فالدعوة الى التعويم هي في حقيقة الامر غير مدروسة ومتعجلة لأسباب منها:
1. ان المضاربة، وليست الطلب الحقيقي على العملة الاجنبية في السوق المحلي، هي من تسهم بنحو كبير في تحديد سعر صرف الدينار في السوق الموازي غير الرسمي. فاذا تم تعويم الدينار العراقي نكون-بذلك- قد عرضّنا قيمة الدينار للتقلب، وفقدان قيمته الحقيقية من دون ان يعكس ذلك فعلا واقع حال نمو وتطور الاقتصاد؛ لأن الطلب على الدولار ينبغي ان ينطلق من حاجة الاقتصاد المحلي الى النمو والتوسع في القطاع الحقيقي، لا الطلب المزيف الذي يقف وراءه في الغالب فساد اداري يتجسد بنحو صفقات وهمية (طلب من دون رصيد) او رصيد تراكم نتيجة تزوير العملة المحلية…. الخ.
2. اعتماد العراق على الاستيراد لسد حاجته من البضائع بسبب عجز القطاع الحقيقي عن تلبية ذلك. وتطبيق تعويم قيم الدينار قد تعرّض الاقتصاد القومي الى تقلبات في الأسعار تؤثر على قطاعات اقتصادية مختلفة ومنها مسألة تثبيط قدوم الاستثمارات الأجنبية الى العراق بل هرب المستثمر المحلي الى الخارج للبحث عن فرص استثمارية، لكون المستثمر يبتعد عادة عن الاستثمار المحفوف بالمخاطر الغامضة ambiguity risk، وان كان المستثمر يبحث عن الربح في بيئة غير يقينية uncertainty لكنه يتجنب البيئة الاستثمارية الغامضة التي يصعب فيها المقارنة بين معدلات العائد للمحافظ الاستثمارية المختلفة.
وقد يستدعي الوقوع في فخ التعويم ضرورة التدخل الحكومي لأيقاف الاثار السلبية للانهيار في قيمة العملة عبر ضخ العملة الأجنبية بكميات كبيرة الى السوق المحلي، وقد تكون التكلفة المالية والاقتصادية والاجتماعية لهذا التدخل أكبر منها مما لو ابقينا قيمة العملة محددة من خلال نافذة مزاد العملة، وقد لاحظنا ذلك عام 2015 عندما سن البرلمان قانون تخفيض مزاد العملة الى 75 مليون دولار في كل جلسة- وهي تشبه الى حدما تجربة للتعويم بنحو جزئي – وتُرك حينها معدل صرف الدينار يهبط حتى وصل الى 1400 دينار لكل دولار من دون تدخل فوري للحد من هبوطه، وعند ذاك تم ضخ كميات كبيرة من الدولار من اجل إعادة الاستقرار الى قيمة الدينار، والى حد كتابة هذا المقال ظلت قيمة الدينار تتأرجح فوق سعر 1230 لكل دولار ولم يعد الى سعر صرفه (1215 لكل دولار) قبل تطبيق قرار البرلمان بتخفيض قيمة مزاد العملة، فتخيل ماذا سيحصل من تقلبات لسعر صرف الدينار وابتعاده عن السعر التوازني لو تم تبني قراراً لتعويم الدينار بنحو تام !
إصلاح إدارة السياسة النقدية
ولكن مزاد العملة هذا يحتاج الى اصلاح في إدارة بعض جوانب السياسة النقدية حتى يكون فعالا في استقرار صرف الدينار والمحافظة على ارصدة العراق من العملات الاجنبية. وسنناقش موضوع هذا الإصلاح من خلال اقتراح آليتين نعتقد انهما ستدعمان بنحو كبير اهداف السياسة النقدية عموماً وإدارة سعر الصرف خصوصاً: هما ربط قبول عروض المزاد بنقص السلع الأساسية وضمان الودائع بالعملة المحلية ضد التضخم.
أولا: ربط قبول عروض المزاد بالسلع القائدة
امام السلطات النقدية هدفان هما تحقيق استقرار سعر الصرف والمحافظة على رصيد العراق من الدولار. وهذان الهدفان المتصارعان لا يمكن تحقيقهم في آن واحد بحسب الصيغة الحالية لمزاد العملة؛ فالحكومة تضحي بهدف المحافظة على رصيد العملة الأجنبية مقابل هدف استقرار الأسعار. وهذا امر لا مهرب منه الا من خلال القبول بوجود سعرين في السوق؛ السعر الرسمي وسعر السوق الموازي. ولتطبيق ذلك على البنك المركزي ان يقوم بربط تزويد الدولار بقائمة أساسية من السلع القائدة، وترك تغطية حاجة بقية السلع من السوق الموازي.
ولكن يجب التحديد بدقة -من خلال الدراسة التجريبية -تلك السلع القائدة ذات الطلب غير المرن – من غير السلع الغذائية الضرورية طبعا- التي ان تحركت أسعارها سوف تتحرك اسعار السلع الأخرى لاسيما الغذائية منها. وتشديد مراقبة أسعار السلع التي تُشترى بالدولار من خلال مزاد العملة عبر أجهزة الحكومة الرقابية من ان تباع بأكثر من سعرها المقرر. ويتم ذلك بتحديد أسماء السلع المستوردة بأموال المزاد ومنع المستوردين الاخرين بأموال خارج المزاد (من السوق الموازي) من استيراد نفس البضائع حتى تسهل عملية المراقبة، ولكي يتم التعرف على الية تحرك الأسعار في السوق من اين تبدأ وأين تنتهي!، وهو امر مهم بالنسبة لتنفيذ السياسة النقدية.
ولكن يجب إلزام العاملين بالبورصة غير الرسمية على الانضمام والعمل تحت مظلة وسقف سوق الأوراق المالية -مع اعفاء عائدات المتعاملين فيها من الضرائب الى حين الوصول الى مرحلة تعويم العملة التي اقترح ان تبتدأ عندما تنخفض حصة عائدات النقط من الدخل القومي الى 50%-. والسبب في اجراء مثل هذا هو اخضاع الصفقات في السوق الموازي للمراقبة المباشرة من قبل البنك المركزي للحد من المضاربة في هذا السوق حتى لا ينخفض سعر صرف الدينار بنحو وهمي وترتفع بذلك أسعار السلع المستوردة غير القائدة وقد ترتفع معها اسعار السلع القائدة.
ثانيا: ضمان الودائع بالعملة المحلية ضد التضخم
قد يلجأ الافراد الى وضع أموالهم في محافظ استثمارية متنوعة ومنها الاحتفاظ بالعملة الأجنبية للتحوط من انخفاض القيمة الحقيقية لأرصدتهم النقدية من العملة المحلية (الدينار). وهذا سبب- الى جنب أسباب أخرى اهمها ضعف الثقة بالتعامل مع المصارف لاسيما غير الحكومية منها -أدى الى تسرب نسبة كبيرة من كمية النقد (بالدينار) من النظام المصرفي واكتنازها في المنازل (وصلت الى اكثر من 70% حسب تصريح محافظ البنك المركزي) الامر الذي يؤدي الى حرمان النظام المصرفي من السيولة اللازمة لتغطية المعاملات اليومية، وقد تدفعه الى اصدار نقدي جديد من العملة الورقية لسد النقص فيها.
لكن ما يهمّنا هو الخشية من ان يتم توجيه هذه الأموال المكتنزة نحو الطلب على الدولار مما يسبب ضغوطاً إضافية تقود الى انخفاض سعر صرف الدينار. والحل لمشكلة الاكتناز هذه هو القيام بتشجيع الافراد على إيداع اموالهم في المصارف مع ضمان قيمتها الحقيقية ضد التضخم من قبل البنك المركزي (ولمن يبحث عن مشروعية هذا الاجراء فقد اقترح هذا الرأي ايضاً السيد الصدر في كتابه المدرسة الإسلامية)، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، ومن اجل بث روح الاطمئنان بين المودعين فلابد من ضمان قيمة ودائعهم الاسمية من قبل الحكومة من خلال تحويل قيمة المباني التي تمتلكها الحكومة القابلة للبيع والشراء (قيمتها حسب التصريحات الرسمية تصل الى 150 مليار دولار) الى سند كضمان لهذه الأموال المودعة Asset-backed security. وتنفيذ هذا الاقتراح ليس صعبا، كما ان تكلفته ليست كبيرة.
هذه الإجراءات الواردة في النقطتين أعلاه من المرجح ان تكون لها اثار إيجابية على نواح عديدة في الاقتصاد ومنها المحافظة عل ارصدة العراق من العملات الأجنبية، والسيطرة على التضخم، وتطوير العمل المصرفي وزيادة ثقة المواطنين به من خلال دفعهم وتحفيزهم للتعامل معه.