أسعد الجبوري.. من الرفاعي الى تخوم العالم
حاوره ـ عباس ثائر:
«كان ذلك الكرسي مصنوعاً من الديناميت. عرفَ ذلك من العلامة الملصقة والتي تفيد بحظر اللمس أو الاقتراب أو التدخين قربه. إلا أن الحقيقة المرعبة الأخرى، كانت تضيف إلى ذلك سرّاً آخر. فلم يكن الكرسيّ وحده مصنوعاً من تلك المادة الخطيرة، بل وكذلك جميع أعضاء جسم السيد السويدي نوبل، وهو ما ترك فيلمون مُتَجَمِّداً من الرعب على كرسيّه من دون حراك.
هكذا صور أسعد الجبوري العالم السويدي نوبل مخترع الديناميت في روايته (اغتيال نوبل) الذي رُشح لنيل جائزته. أسعد الجبوري شاعر وروائي عراقي ولد عام 1951 في قضاء الرفاعي – محافظة ذي قار. اضطر للهجرة خارج العراق بسبب مطاردة النظام السابق له وأصدر حكم الإعدام غيابياً عام 1974 بحقه.
في المقدمة ثمة سؤال عن الشعر، هل هو روح الشاعر أم ذاته؟
– ليس على الشاعر إلا أن يعترف بأن الروح سلف الذات الشعرية، هذا ما اعتقده أنا والشاعر في أثناء الكتابة، يترك الاثنين في محرقة الكلمات من أجل أن يحقق أهداف النص بعيداً عن التأويلات المضادّة لحركة البلاغة داخل اللغة.
من هنا يصبح السؤال عن الشعر كالسؤال عن الروح، عن الذات، أو عن الألغام التي تنضج في تربة اللغة.
عندما يدخل القارئ في عمق تجربتك الشعرية، يحس بالحيرة والقلق وربما الضياع، ثمة ثقل بلاغي سينمائي يطغي على نصوصك، كيف يمكنك التعبير عن تجربتك في الخلق الشعري؟
– لا أعتقد بأن تجربة شعرية تخلو من الحيرة أو القلق أو الضياع، وتستحق القراءة أو الحياة. فكل تجارب الشعر المهمة عبر التاريخ الأدبي، كانت تمتلك تلك المقومات، أي أن تقلق المقابل وتتركه حائراً بين الكلمات وربما إلى درجة تضييعه بين طبقات اللغة، ربما تلك مهمة الشعر السريّة، فالشاعر الفارغ لا يصنع من القارئ إلا زجاجة فارغة.
الحديث عن تجربتي يبدأ من نقطة واحدة: المرور بمنازل الشعراء والهرب منها من دون التفكير بالسكن أو الاستقرار داخل غرفها.
لم يتمكن الشعر من صياغة تجربتي في الداخل العراقي، كنت في مشروع البحث عن الحرية وسط ركام الظلام وهتك السيوف، فالحرية كمشروع أو خيار، كانت بالنسبة لجيلنا هي الهاجس الملح، كانت فكرة الخارج أقوى من فكرة الاستسلام للداخل، ولكنها لم ترتق إلى فكرة أو مستوى المهجر. فلم يكن العراقيون في تاريخهم من المهاجرين أو من المهجرين، في سنوات القمع والاضطهاد فرضت عليهم فكرة التهجير القسري، لنستسلم بعد ذلك للمنفى، لقد خلقنا أدباً منفوياً بقيم واسعة وبمدارس فنية متعددة، وأستطيع القول بأن أدب المنفى الذي اشتغلنا عليه طوال سنوات الظلام والظلم والقمع والاستبداد والقتل سيبقى تراثاً لا يمكن محوه أو الاستهانة به.
من هنا يمكن القول إننا لم نكن فرانكفونيين أو سكسونيين بقدر ما نحن نتمتع ببلاغة الموهبة العربية التي لا تخلو من الغبار والدم والهدر، رافضين الانجرار وراء أن نكون دمى مدمجة بالهويات القاتلة التي تستلب مياه العقل وتحول الشاعر إلى حشرة على الرصيف.
لقد ارتبطت تجربتي الأدبية المبكرة بفكرة الإعدام، أي بفكرة الإقصاء من العالم والكون. حدث لي ذلك بعد صدور حكم غيابي بإعدامي، أي بعدما تشبثت بالحرية كشرط مرتبط بشرط الوجود.
المنفى من وجهة نظر أسعد الجبوري
إلى أي مدى كان المنفى مؤثراً في تكوين تجربتك؟
– انا منفاي براسي قبل أن يكون جغرافياً.وربما سيبقى للأبد .الجغرافيا تصابُ بالتصحر بالتجريف بالغرق أو بالتدمير.لذلك فهي تُخضع الشاعر إلى المزيد من التصليحات والتعديلات والتنقلات من تيه لمجهول آخر.فيما منفى الرأس، أو الرأس المنفى ،فقد يعادلُ وزنهُ ثقلَ كوكب .لكن الشاعر في نهاية المطاف، يستطيعُ حملهُ على الكتفين بفكرةٍ صغيرة .
المنفى الأدبي في حدوده الجغرافية يبقى سجلاً مفتوحاً ،ولكن بشرط الاختلاف.لقد بت أخشى من كل شيء يميل إلى الطمأنينة والثابت .
هل هو الخوف من شيْ محدد ؟
– لا .ليس الأمر يتعلق بالموت ،بقدر ما هو متعلق بالسكون .النص الشعري في حقيقة الأمر الفني هو جسد بيولوجي ،متى ما أصيب بالسكون أو الاستقرار ،سرعان ما يتحول إلى جثة لدّابة متعفنة في الذهن أو على طاولة.كل نص يبعث على الطمأنينة في الآخر هو نص نافق لا نفع منه.
أهي دعوة لتحميل النصوص شحنات خاصة لإقلاق القارئ مثلاً؟
– أجل.فالمهم أن لا يستسلم النص ولا القارئ للغيبوبة.مقتل الكتابة فيما أعتقد يتمركز بابتعاد المؤلفين عن الخط الاستوائي لكتابة تثير وتحفز وتقود الآخرين إلى النقاط الحارقة التي لا تنتمي إلى أي عالم نظيف أو متجمد ذهنياً أو إلى أية منطقة تتمتع بالهدوء النسبي.
هل هذا ما فعلته في روايتك الجديدة ((ديسكولاند)) التي حملت بذرة التصادم مع الغرب عبر اللاجئين والغرباء والمهاجرين وذلك بدعوتهم إلى الانقلابات العسكرية في بلدان أوروبا للوصول إلى السلطة؟أليست الفكرة بحد ذاتها خطيرة؟
– روايتي لم تتناول هذه الفكرة بالطريقة التي تحدث عنها البعض .لقد تناولت الموضوع من جانب آخر تماماً.قلت ان الضغط العنصري على المهاجرين والغرباء سيقود إلى انفجارات وعنف قد يبرر الصعود إلى السلطة وان بواسطة الانقلاب العسكري. وما جاء في الرواية أن الحركات العنصرية وأحزاب اليمين الشوفيني المتطرف تقوم باغتيال ملك بلاد ((ديسكولاند)) ليتهم الأجانب بالجريمة ،بهدف تحريض الشعوب ضدهم.نحن لم نعامل الغرب بالطريقة ذاتها التي يعملون هم وفقها ،سواء بالغزو أو تمتين بعض الأنظمة الشمولية أو بتدبير الانقلابات العسكرية وسواها في العالم الثالث ،بقدر رغبتنا بأن ينظر الغربيون إلى قضايا المهاجرين واللاجئين السياسيين نظرة غير تلك النظرة الاحتقارية التي تصف الغرباء والمهاجرين بالشحاذين والصعاليك واللاجئين الاقتصاديين!!
ثمة ظلم وقسوة في هكذا نظرة.
بين الرواية والشعر يحلق
الجبوري في سماء الادب
لماذا الرواية ؟هل فسد رحم الشعر ولم يعد قادراً على توصيل الرسائل؟
– لا .ليس الأمر هكذا.فأنا عندما ذهبت إلى الرواية ،فإنما ذهبت لممارسة نوع من التنشيط لخلايا الرواية العربية بعدما استفحلت أمراض خطيرة في عمق هذا الجنس الأدبي.
هل ذهبت منقذاً كما تقصد؟!
– لا يتعلق الأمر بمفهوم إنقاذي لفن يتعرض لبعض المخاطر،بل من أجل إحداث نقلة بالاتجاه الآخر .الاتجاه المضادّ للكلام .فالرواية لم تعد كلاماً يتساقط من أفواه السرديين أو الحكواتية،بل بات بناء لواقع أسطوري ضمن الواقع المستهلك بالفساد والعدم.فانهماك الرواية أو أي جنس أدبي آخر بحكي أو الكتابة عن الفساد ،سوف لا يقود إلا إلى وضع الرواية في محرقة .أو زجها بمنطقة موبوءة بهدف قتلها والتخلص من جفاف كتّابها .
ماذا يقول الأوروبيون عن رواياتك؟ نحن نراك تكتب عن شخوص غربية.عن وقائع لا تنتمي إلينا في الشرق.ربما لهذا لم يحفل النقاد برواياتك بالقدر الكافي .ما رأيك؟
**سأقول شيئاً مهماً:الأوروبيون لا يحفلون بكاتب أجنبي إلا في حال أن تكون كتاباته مجندة لصالحهم.بعبارة أدق :أي أن يمشي الروائي الأجنبي ظلالاً لهم.لقد حازت روايتي الثانية ((الحمى المسلحة)) إعجاب المخرج الدنمركي(( لارس فون ترايير )) مخرج فيلم ((الرقص في الظلام)) ولكن ترجمة روايتي من العربية للغة الدنمركية فشلت بسبب عدم وجود مترجمين بارعين على نقل عمل أدبي من ذلك الطراز .
أما النقاد العرب، ربما ليس لديهم ما يبرر التغيب عن مثل هذه الروايات لولا انها تحمل تصادماً حقيقياً مع المفاهيم والأفكار مسبقة الصنع عن الرواية الحديثة التي لا تستجيب للقواعد القديمة الخاصة بكتابة هذا النوع من الكتابة.
حينما أعلنت عن ميلاد قصيدة «النانو»، لاقت اعتراضات و من الممكن ان تكون حادة، كيف تعاملت مع هذه الاعتراضات و ردود الأفعال بنحو عام؟
– لا لا توجد اعتراضات لنمو قصيدة ((نانو)) في الجسد الثقافي، ولكن النانو جاء صدمةً حادّةً، تعرض لها كتّاب الهايكو المقلدين للشعر الجاهلي في اليابان.
عندما أتيت بقصيدة النانو مبرراً بانها تختصر المسافة بين القارئ و القصيدة و تحد من السرد بشكل عام، ألا تعد ذلك خروجاً على ما وقفت بصفه مدافعاً عنه وأعني دفاعك عن قصيدة النثر فيما سبق؟
– أنا منفتح على شتى الأشكال.لأن العملية غير متعلقة بالشكل أصلاً،إنما بقوة الدفع، فالمنطقة التي يتم لنص النانو اقتحامها،لا تترك خلفها سوى الرماد.،كونها تقضي على السردّ واللغو والإنشاء والعويل اللغوي الذي لا طائل منه.
في حوار اطلعت عليه تفضلت بأن ترشيحك لجائزة نوبل هو بمنزلة ثابة «قفزة في الهواء الطلق» كيف ذلك؟
– عندما ترشحت لتلك الجائزة بنفسي مدعوماً من منظمتين ثقافيتين ،كان الأمر بمنزلة جرأة لم يقدم عليها أحدُ من قبل،وذلك لأنني طالبت من مؤسسة الجائزة ،أن تكون اللغة العربية معتمدةً لديهم لأغراض قراءة الأعمال بعيدة عن الترجمة.
أشيع ان رواياتك أستبعدت من جائزة البوكر العربي، الام توعز السبب؟
– ربما لأنها تشكل اتجاهات في غير صالح أصحاب الجائزة والقائمين عليها،علماً أن دور النشر هي التي تتقدم لتلك الجائزة برواياتي.
كنت أحد المرشحين لنيل جائزة نوبل، الام توعز عدم نيلك الجائزة؟
– طقوس الجائزة غامضة.والذي حدث هذا العام بمنحها للمغني ديلان ،يؤكد أن نوبل قد جردت خزائن الآداب من أهم فلزاته العظيمة في الشعر والرواية وبقية علوم اللغات.
و كيف كانت وطأة الموضوع عليك و هل تعتقد بأن تلك الجوائز كنوبل مثلا هي غاية من غايات الأدباء؟
– كوطأة انتظار غودوت.وهذا ينطبق على كتّاب عالميين أيضا.