الدكتاتور فنّاناً

كتاب “الصباح الجديد” عن تأريخ لم يطوَ(الدكتاتور فنانا) لرياض رمزي
الحلقة 12
هل يمكنك أن تقرأ طوال خمسين سنة، وتعبّ مئات الروايات والمخطوطات ودواوين الشعر وكتب علم الاجتماع والدراسات المستقبلية، وأن تصبر على إكمال قراءة مجلد موبي ديك العقد والمتشابك، وتفكك خطب صدام حسين ومؤلفات اسحاق دويتشر وبرزان التكريتي والمركيز دي ساد ونيتشة وأمهات كتب التراث، بثلاث لغات حية، العربية والإنكيزية والروسية ثم تؤلف كتابا واحدا لا تتجاوز صفحاته على المائة والأربعين صفحة عن شخصية صدام حسين هي خلاصة كل ما قرأتَ وتأملتَ، إذ يتدحرج الفنان الدكتاتور، أو الدكتاتور الذي تفنن في تدمير كل من ألقاه حظه العاثر في طريقه، وتجبر على الله ومخلوقاته، وانتهى مثل هذه الأيام، قبل أربعة عشر عاما، الى خارج المعادلة بعد أن تسببت حماقاته في كل ما حل بالعراق من كوارث.
يقول الكاتب رياض رمزي في مقدمة كتابه (الدكتاتور فنانا)
بالرغم من أن العراقيين، على عكس الشعوب الأخرى، لا يعدون ظاهرة العنف حالة طارئة في تأريخهم، فأنهم مع اطراد الكوارث المفجعة كثيراً ما يتساءلون : أي لعنة خيمت عليهم ؟ وأي جريمة اقترفوها كي تسير الحياة السياسية لديهم يدا بيد مع القتل؟ما هو سبب هذه التراجيديا التي بدأت تقود الى اعتقاد سطحي لدى البعض يتمثل في تسمية مبسطة يطلق عليها عادة “سوء الطالع ” هل هو التأريخ الطويل للقتل السياسي أم أرواح شريرة سكنت هذه الأرض؟
كيف تنكل بأقرب الناس إليك؟ سؤال لا يجيب عنه إلا رواة الدراما.. أبرياء يطلبون الغفران ومذنبون ينفذون أحكام “العدالة”

4. الأدوات الروائية كفن مهم من فنون الحكم
يستطيع المرء استقراء مواهب البطل في الفن الروائي من الحوادث التالية:
أولا ، طريقة سرده للحدث التالي: أقصاء عبد الرزاق النايف احد قادة اقلاب 17 تموز 1967م. شهر البطل مسدسه على عدوه فصرخ العدو المرتجف هلعا “لدي اربعة اطفال”. فقال له الفارس “لا تخف على الاطفال” عدو يخاف على أطفاله اكثر من خوفه على سلطته والفارس يطمئنه بأنه سيحافظ على حياة اولاده من غير ان يقسم على ذلك لأنه يتصرف انطلاقا من اخلاق فروسيته. ولكنه يقول بنبرة حازمة على نحو ما يفعل الفرسان لأظهار صبر طويل كان على وشك النفاذ “اننا دفعنا دماءنا من اجل الثروة وانت جئت طارئا عليها”. يأمر البطل بأحضار طائرة لنقل عدوه الى المنفى ، وهي حبكة تدل اولا على سلطة البطل وسيطرته المطلقة على الحدث ، وثانيا على قدرة هذا الفارس على كبح مرارته لأنه يتصرف وفقا لناموس معروف وغير مكتوب في مجتمع الفرسان لا بل ان التزام البطل فروسيته يجعله سعيدا كما هو مفترض ، لأنه مارس الرقابة على تصرفاته فسيطر سيطرة مثالية على غيظه ، كي يصبح قدوة للاخرين ، وذلك عندما امر الخصم بأن يتصرف كرئيس دولة يؤدي التحية للحرس الرئاسي منعا لأذلال خصم مهزوم. لأن اي تصرف عكس ذلك ، سيجعله في مرتبة ادنى في سلالة الفرسان . لكنه يظل محتفظا بقدر مناسب من الروية عندما يحذر عدوه من التلاعب بسماحة البطولة. وعندما يغادر الخصم يبكي البطل وهذا هو الختام المؤشر الى اسدال الستار على خطر تعرض له الفارس والى ابتهاجه لأن هزيمة المهزوم لم تخلف اية تركة تجعله في وضع حرج في وضع حرج مع ضمير مهنة الفروسية. انه يعود الان بعد الدموع الى مزاجه الهادئ فلم يعد يولي الحدث اهمية .
هل يمكن الفن الروائي ان يذهب ابعد من هذا الحد انها رواية تقتفي خطى رواة المغامرات الصارمين والحريصين على قواعد مهنتهم.
ثانيا: حلوله المبتكرة للمشكلة التالية: منع تصدير النفط الى الخارج بعد احتلاله الكويت. الحل ، عن طريق تقديمه بالمجان الى كل مجازف يصل الى ميناء البلاد او الى مراكز التحميل. البطل حائر في كيفية محاصرة اعدائه لكنه يهتدي الى حل على شكل نية سبيتة لاستدراج لاعبين اخرين عن طريق اقتراح حافل بالإغراءات: دعوة اشخاص جياع الى وليمة مجانية باذخة ينعمون فيها بوجبات شهية ثم ينتحون جانبا ، بعد ملء صحونهم كي ينفخوا طعامهم بسرعة لتبريده والتهامه تمهيدا لوجبة ثانية. ثم ما يلبث المدعوون الى الوليمة، بعدما استأنسوا بالطعام والشراب ان يتفقوا على مواجهة من يحول دون اقامة هذه الوليمة العامرة. هذه هي الرؤية الروائية التي تنير ذهن المؤلف فيتمادى في الخيال.
ثالثا: عندما وصل ميكيافيلي الى نتيجة مفادها ان فشل الحكام (عند اختفاء مفاجآت الحظ الحسن). يعود الى غياب مرونتهم ازاء ظروف متغيرة جديدة، فأنه كان يقصد انهم لا يعترفون بقوانين الواقع حين واجه البطل الهزيمة العسكرية والحصار لم يرضخ لمتطلبات الواقع الجديد بتسليم سلطته كلها او جزء منها ، بل لجأ الى مخزون الرؤى الفنية مبتدعا حلا روائيا يغير الواقع بجعله اكثر توافقا مع عالمه. وذلك بتدمير المواطنة بإرجاعها الى الحالة القبلية وتدمير المواطن نفسه من طريق التضييق على الحيز او الفضاء الذي يعيد الجسد فيه انتاج مرونته من خلاله بالمرور يوميا عبر عشرات مواقع السيطرة والتفتيش المنتشرة . حاملا دستة من بطاقات التعريف . يشرع الشخص في الشعور بثقل وجوده المتحول الى عبء عليه. وكي يكيف وجوده بالتوافق مع المحددات المفروضة ، يبدأ بقمع متطلبات جسده. فهو فضلا عن انه لا يلقي بالا لعذاب الاخرين، ولهدف المحافظة على ادامة وجوده المتطلب لنفقات استئنائية ، يفضل اهمال جسده وتركه عرضة للمرض. ان مواطنا كهذا يقبل الهزيمة بسرعة . حول الكثير من المصابين بأمراض غير قاتلة امراضهم الى اخرى مميتة نتيجة اهمال متطلبات وجودهم اذ لم تعد لديهم الامكانية لفسحة من التقاعس واللامبالاة والارتخاء والرحابة التي تعيد للجسد ارتعاشات الفرح التي هي على قدر كبير من الاهمية لتفتح الذهن والعناية بالذات. ان شخصا يقضي سحابة حياته سائرا على اصابع قدميه خوفا من احداث صوت على البلاط ، لن يكون قادرا على كتم ذلك الصوت والتحكم به مدة اطول. ان الذات لا تستطيع الصمود في وجه الاخطار مدة طويلة. وهذا ما يسبب بلادة في الوعي . هل هناك من بطل يقلق على بطولته من محكومين على هذه الشاكلة؟
رابعاً ، عندما نسب صدام حسين نفسه الى سلالة النبي ، كان يقتفي خطى الاسكندر الكبير الذي جعل الكهنة يعلنونه ابنا لزيوس كي تتفق اندفاعاته نحو المستحيل مع قداسته ولم تكن لبطل هذا الكتاب من معايشة لتجربة دينية بالزهد المعروف عن الاتقياء الذين يذوبون وجدا في المعابد ، وترسل عليهم نداءات القرآن او الاذان سكينة يتحولون اثرها الى مصروعين من شدة التقوى. ولم تكن الاجواء الدينية الشموع ، النذور… لتشكل جزءا من عالم طفولته. فهو لم يكن ليلتمس العون من قوى علوية. لأنه ببساطة لم يكن يؤمن بمجيئها فقط. لماذا ، اذن ارتد الى الدين ولم يكن هناك في طفولته ما يشير الى وجود جو ديني ورع شكل خلفية لتربية دينية يعود اليها كملف يستشيره في اوقات الضنك؟ لا يسع شخصا عاش حياة كحياته الا ان يكون ملحدا ، او لا يكون متحمسا نحو نواهي الدين في اقل تقدير. تكفي عباراته التي اطلقها في المؤتمر الحزبي التاسع عام 1982م للتدليل على موافقة غير التبجيلي نحو الدين. فقد اعلن في تلك المناسبة ، انه لا يعرف هل كان تعاطي الخمر جيدا او سيئا. وما يهمه هو دستور الحزب الذي يجب ان يراعى. ادمان كإدمانه على الدين سيكون ميلا مريبا ، لا ينبغي النظر اليه كارتداد ينم عن التقوى. لماذا الدين اذن؟ لأنه اكتشف صعوبة الرحلة فعاد الى الدين لهدهدة النفس والتقاط الانفاس.
وما هو نوع الدين لديه ؟ انه تكنيك روائي يستخدمه بطل الرواية لاعطاء رحلته الداخلية وحدة واتساقا ، يجب ان تلائم الرواية شخصية البطل الذي يجب ان يطلق حوارا داخليا مع نفسه وخالقه. الشخصية المركزية تبحث عن شيء ، وعندما لا تجده تتساءل: ما هي الحكمة من عدم نيل مبتغاي برغم تجاوزي صعوبات كبرى؟ تبدأ الشخصية بأطلاق حوار داخلي مع النفس تعيد فيه ترتيب افكار شنتها ازمة ألمت بها فبدلا من مواجهة التيار ، تشرع الشخصية في البحث عن سبب ازمتها في حومة المجال الديني: ربي لم صيرتني مخطئا؟
تتضمن كذلك هزيمته في الكويت فكرة الامتحان المغلفة بأفكار غاتمة تعمر بمناجاة للنفس. الانتصار الفعلي لدى هذه الشخصية له قوانين اخرى ، ليس اهمها الانتصار المادي ، بل قبول التحدي وتجرع الالم والرد على التحدي بمزيد من الالم . تحاول خطبه استمالة القارئ كيف يقف مع البطل ويتفهم محنته الوجودية ومضمون اخفاقاته الكبيرة التي لم يكن للبطل من قدرة لبلوغها لولا وجود حكمة دينية وراءها. من يقرأ خطبه الاخيرة يجد مجموعة من اختلافات بلاغية شبيهة بالخبز البائت وذات لغة مهشمة تستعير نبرة الرسائل التي كان الخلفاء يوجهونها لولاتهم في الامصار والتي لا تستند الى حقائق او تحليل ملموس (انظر خطبته في مناسبة مرور 12 عاما على انتهاء الحرب العراقية الايرانية) بل تختزل الصراع الى منازلة مع اوغاد يرومون الاذى للشعب. وعلى الشعب قبول ذلك كي يجدد دعمه. بما ان البطل وجد نفسه بين قوة عليا جادت عليه بهذا النصيب من دون قصد اساءة عليه اذن اخراج افضل ما لديه من خلال المعاناة وذلك بتسليم نفسه لأرادة الله واشهاد الجمهور على ذلك ، عن طريق بناء مسجد كبير لله ومنع شرب الخمور ، وكتابة القرآن بدمه والافراج عن المساجين بعد حفظهم القرآن . هل بميسور احد توجيه لوم البطل الذي طبق شرع الله؟ بما ان البطل لا يمكن ان يكون كذلك الا من خلال الامتحان ، فالله هو الذي افصح عن ارادته بتعريض البطل للمشاق. انه يسير في الطريق الذي اختطته العناية الالهية بيقين يشبه السائر في نومه. فما كان هزيمة للبطل بات مصدرا لقوته الروحية . هل هناك من حل روائي لتبرير اخفاقات البطل اكثر فنية من هذه الجودة؟ هكذا اذن ، من يصنع الروايات هم اشخاص لا يقبلون بواقعهم . انهم يطورون توقعات يريدون من الحياة ان تحققها لهم. فهم يخلقون واقعا جديدا مبتدعين القصص ليس للتخفيف من شدة وقع الاحداث عليهم فحسب ، بل لخلق واقع جديد. وفقا لهذه الرؤية فأن العالم لديهم فعل ارادات وليس حركة مصالح. الواقع بالنسبة اليهم امرأة لا تعطي نفسها لمن يتذلل خاضعا ، انما للرجال الذين يفرضون عليها الخضوع. عندما اتهم جان بول سارتر الروائي فرنسوا مورياك بالقول انه يلعب دور الخالق في رواياته فأنه كان يعني سيطرته المطلقة على مصائر شخوصه. من يفتح امامه ابواب الفردوس ومن يرسله الى الجحيم. وكأن ضربا من القدر يسوقهم الى مألهم الاخير. اهم عمل في الدنيا رواية القصص. الملايين يصوغون احداث ايامهم على شكل قصص. الجميع يميلون الى روايتها وسماعها او كتابتها. انها اول مطلب انساني يطالب به الطفل والديه قبل النوم.
لن تكون للمرء ذات متميزة عندما لا يسعه سرد حكاية لنفسه. من ليس بوسعه سرد حكاية لنفسه كي يتسلى بها انما هو يعاني مرض (dysnarrative) اي غياب القدرة على رواية حكاية للذات. لكن هناك مرض يصيب منتجي الروايات نفسهم: هناك من ينتج رواية ويعرف انها رواية، وهناك من ينتج صورة او رواية ويعتقد انها حقيقة.
تكشف لنا دراسة النص الروائي عما نوى الكاتب فعله. ولكن ثمة محددات منعته من ذلك فآثر الافصاح عن افكاره. روائيا كذلك الامر بالنسبة الى رجل الدولة نحاول معرفة ماذا ، وبأي اسلوب كان لهذه القائد ان يكتب، لو لم يكن في السلطة. انني اطارد الشخصية الروائية الموجودة فيه. بالطريقة نفسها التي يطاردها الاطباء الشعبيون الشيطان في جسد الممسوس ، بمحاصرة الاخير بالضرب من الرأس نزولا الى ابهام القدم اليسرى لاخراج الشيطان منه.
ان اعظم الروايات هي تلك التي تشعر القارئ انه مازال في عقل الشخصية الرئيسة الكثير من المفاجآت لأنها مملوءة برغبة حال اخرون بينه وبين تنفيذها. انها تستبسل في تنفيذ وهمها برغم العقبات ، وقد تصل او لا تصل ولكنك في النهاية لا ترى غير اثار الحروق على اجساد الشخصيات من شدة النيران التي اشعلها البطل.
لمعرفة درجة روائية (narrativity) حدث ما ، يجب ان تسأل : ماذا تريد الشخصية الرئيسة؟ ما هو نوع العوائق التي تقف في وجهها؟ كيف نفذت فعلها؟ وماذا حدث بعد ذلك؟ لا تسأل عن درجة الشجاعة لدى الشخصية ، بل عن الصورة التي رسمتها الشخصية لنفسها كي يصدقها الاخرون. كان ديلاكروا عندما يريد رسم نمر يتخذ من قطته موديلا ، فيحصل على نتائج باهرة: انه ليس نمرا ، انها اكثر من نمر. انها قطة تنمرت، وليست نمرا حصل على خصاله من دون تعب. كان موبوتو كثيرا ما يخرج الى الجماهير بقبعة وملابس مرقطة تستدعي الى الخيال صورة الفهد ذي الجلد الذهبي الفاتح والبقع السود ، والذي يستدعي الى الذهن ما هو تداول شفويا عن طباع هذا الحيوان المتميز بخفة اليد ، وسرعة الجري والقنص بافتراس افاع سامة ، وقوارض وحيوانات وديعة. يضع فرائسه في مخابئ كي يعود اليها لاحقا في لفتة لا تحمل معنى حرفيا بل باطنيا اي انه لا ينسى طرائده ابدا. تتولد من هذه الصورة واحدة اخرى خفية هي ما يصبو اليها موبوتو، ومضمونها ان يشاهده الجمهور ويستحضر صورة الفهد كي تحصل عملية استبدال: موبوتوا/ الفهد ، الفهد/ موبوتو فتصبح الملابس نعتا لمنعوت . فيبدأ مرتدي الملابس بالتحول رويدا رويدا ، الى فهد. عندما وصل كابيلا الى الحكم. كان يخشى النظر الى عيني موبوتو خوفا من فتك عينيه الشبيهتين بعيني الفهد. وعندما حوصر نكوما دكتاتور غينيا الاسبانية ، رفض الجنود اطلاق النار عليه خوفا من تحوله الى نمر يطاردهم في الغابات ما حتم استدعاء فصيل مغربي مدرب لأطلاق الرصاص عليه.
تكون هذه الفكرة الخلفية لفهم اللوحة الاتية: “هناك بطل محاصر خاض حربين مهلكتين وواجه حصارا. مات من رعيته ما يربو على المليون. ولكنه في عرض من عروض القوة ، يخرج في احتفال جماهيري ، معتمرا فوطة سوداء عليها قبعة كالتي يعتمرها رعاة البقر ، ممسكا بندقيته ، ومتقدما احدهم يلقم له سلاحه فيطلق الرصاص على مرأى من الجمهور في صمته على على وقع الاعيرة النارية التي تتطاير فوق رأسه في السماء. ما يريد البطل استدعاءه هنا هو تلك الصورة التي تنفصم عن خالقها فتحلق ثم ترتد اليه ، تلتحم به ، خالقه نوعا جديدا من المشاهدين الذين بعد ان اجهدوا انفسهم لاستجماع افكارهم عقب الحادثة ، بدأوا يرونه بعيون جديدة “ان وقتك هو وقتنا: وقت الحرب واراقة الدماء وتناثر الاشلاء ، وهذا ليس بكثير عليك يا سيدي”. هذه هي السلطة الخفية للصورة التي سيتصرف الجميع وفقا لها. هناك امر غير قابل للتفاوض. شؤون بطولة البطل ، التي لا احد بميسوره او من حقه النظر اليها بعدم جدية. الا تكفي هذه الطلقات بأن تعطي شرحا مسهبا لشخصية البطل الذي يصفع ببندقيته وجه الريح جاعلا حتى اصغر طائر يرتعش؟
في هذه الرواية الاستعراضية ، مؤلف ونص وقارئ . مؤلف امسك ببندقيته واطلق النار في الهواء . النص، اطلاق اعيرة نارية في الهواء. القارئ ، مشاهد شاهد العرض واخذ حدث اطلاق النار على محمل الجد ثم انقاد الى تفاصيل بدأ يتوصل اليها بنفسه من دون مساعدة من احد ، عدا تلك التي حصل عليها من فوهة البندقية المتجهة نحو الاعلى ليصل الى الاستنتاجات نفسها التي خلص اليها اولئك الذين كانوا يجلسون على سلم رفعه رجل على باطن قدميه. عندما تقول في روايتك محمد مات لا تقل ذلك بطريقة مرعبة . فالموت لا يحتاج الى صفات ملونة . انه لا يحتاج الى وصف ان كنت تشاهد الجثة . دع افعالك احادية لا تحتمل التأويل . اذ لا احد يشرح العبارة الاتية القتلى لم تعد تنبض. في العودة الى المؤلف فهو يتجاوز منظومة التوقعات لدى القارئ من خلال ردود فعله غير التقليدية ، التي تجعل من غير المتوقع واقعا قائما . لماذا يحدث ذلك؟ لأن البطل يفهم العالم من منظار بطله الذي يطلق رصاصاته في الهواء. انه يعتقد بوجود عالم آخر يستمع اليه ويقرر ردود افعاله استنادا الى صوت الطلقات. انه قانون ارادة البطل. القانون الذي قرر وفقا له كليب بن وائل ان له من الارادة ما يجعله قادرا على حماية ارض مساحتها تعادل المدى الذي يبلغه نباح كلبه. عندما يواجه شخص كهذا مأزقا يطرح حلولا اوحاها اليه بطله. فيمسي تصرف البطل ليس مرتبطا بالظروف، بل بردود افعال بطله على تصرفات الاخرين. وبصورة ادق: ردود افعال متخيلة لأفعال اخرين انطقهم البطل بخياله فبات يحاكمهم تبعا لما خامر ذهنه من تخيل افكارهم المضمرة. بهذه الطريقة ينظر هذا البطل المنفصل عن الواقع، الى الاحداث على وفق رواية كتبها وسردها لنفسه ثم قرر اخراجها الى العلن بمعزل عن الظروف.
ما هي اوصاف هذا البطل الذي بنى هذه الرواية على ارض الواقع؟ اولا انه قوي. وبما انه كذلك فهو ليس بحاجة الى دحض منطقته. فالقوة (وهي سلعة نادرة ان احتكرها فرد ما جنى منها ارباحا فاحشة) تخلق منطقها الخاص. انها صفو موجودة لدى جميع الاقوياء كيف ما كانوا: قادة ام مبدعون. انهم كالعلة الاولى، تشكل شخصياتهم بحد ذاتها مصدرا لحقوقهم. يكتسب الفعل شرعيته منهم غير آبه بمسوغات خارجية.
وثانيا، جزء من الجواب موجود لدى سرفانتس. فأي فشل يصيب دون كيخوت ليس فشلا لأنه يفهمه على وفق مفردات عالمه المغرب عن الواقع. ليس هذا العالم المغرب عالم روائي. وبما انه مغرب فهو لا ينتمي الى زمان ومكان معينين يخضع لقانونهما ، بل انه يخضع لقوانين العالم الذي خلقه لنفسه ، والذي يعتقد ان الاخرين يعيشون فيه ويخضعون له. هذه مفارقة تتخذ طابعا ساخرا. لكن مضمونها ليس مضحكا في: بطل لا يعرف قوانين واقعه، بل متطلبات احلامه.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة