هذا جزء من مقطع تضمنته قصيدة للراحل الكبير محمود درويش (مديح الظل العالي) التي كتبها بعد الهزيمة المرة التي لحقت بمنظمة التحرير الفلسطينية وفصائل المقاومة في بيروت العام 1982، واضعاً بصيرته الثاقبة ووعيه العميق في خدمة بنات وأبناء شعبه في محنتهم تلك، عندما أعاد ترتيب الأولويات بعبارته المكثفة (ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة..!). مثل هذه المحطات المريرة في حياة الشعوب والأمم، تمر أحياناً من دون أن تترك تحولاً إيجابياً عليها، والسبب يكمن في هذا الخلل بهرم الأولويات، الذي تقف وراءه حزمة من الشروط الطاردة لحاملي الثقافة والوعي والعقل النقدي (الفكرة). وهذا ما يمكن أن نشاهده اليوم مع فزعة الاستفتاء الأخيرة في كردستان، التي أصر عرابيها على إقامة الدولة من دون الالتفات الى شرطها الأساس (وعيها) وأدى بالتالي الى تأكيد نبوءة درويش عن ضآلة شأن الشعارات والمشاريع العابرة (ما أصغر الدولة)..!
لقد حذرنا مراراً وتكراراً من مثل هذه الفزعات والدعوات البعيدة عن الحكمة والمسؤولية، وعن مخاطر الاعتصام بالشعارات مقطوعة الجذور، لا سيما وأن عالمنا الراهن زاخر بتحولات عظيمة ومتسارعة أصبح فيها عمر المعلومة أقل أحياناً من عمر الفراشة كما يقول عالم المستقبليات (الفين توفلر) مما جعل الكثير من الشعارات الجميلة والصحيحة ذات عصر تنضم لقوافل الاكسباير. إن مواكبة مثل هذه التحولات والتفاعل معها بما يخدم القضايا المصيرية لشعوبنا يحتاج الى بيئة ومناخات أخرى طاردة لشريحة الحبربش واللصوص، وجاذبة لنوع آخر من الشخصيات المتفانية، التي تكرس كل إمكاناتها ومواهبها لأجل خدمة الشأن العام. هذا الخلل البنيوي الذي يقف خلف ما حصل مؤخراً مع القيادة الكوردية وهرولتها خلف (الدولة) لا ينحصر عندهم فقط، بل هو موجود عند ممثلي “المكونات” الأخرى، وسيكشف عن قدراته ونفوذه الفعليين في الوقت المناسب. إن التحدي الفعلي الذي يواجهنا جميعاً في بغداد وأربيل، يكمن في قدرتنا على التخفف من فضلات العصور الغابرة وثوابتها وشعاراتها الصدئة، والتحول الى ما “ما ينفع الناس ويمكث في الأرض” أي إنتاج الخيرات المادية والمعنوية، الذي يقف وحده خلف تطور المجتمعات والدول واستقرارها وازدهارها. هذه المهمة ليست من تخصص اللصوص والحمقى والديماغوجيين والمشعوذين، الذين أهدرنا برفقتهم الكثير من الأرواح والإمكانات والوقت والفرص التاريخية التي لا تتكرر بسهولة.
إعمال الفكر العميق والمسؤول والشجاع، وحده بمقدوره انتشالنا من دوامة هذه الخيبات المتتالية، لا المواقف الذيلية والوصولية المثقلة بالتفاهة وضيق الأفق وعقائد كراهة الآخر وشيطنته، المهيمنة على المشهد الراهن بهمة هذا النوع من القوى والمصالح والعقائد المعادية لكل ما يمت بصلة للعقلانية والحداثة والتجدد. هذه القوى والعقليات المتخلفة هي من نفخت طويلاً بشعار (الدولة المستقلة) هرباً من مواجهة التحديات الواقعية التي لاقت في حقولها فشلاً ذريعاً، لينعكس بنحوٍ واسع وعميق في النتائج العملية لمرحلة ما بعد الاستفتاء، والتي يحاولون عبثاً رمي عواقبها على الآخرين، عبر وابل من التهم التي تثير في أفضل الأحوال، مشاعر السخرية والأسى للحال الذي انحدروا إليه، من تعنت وصلافة لا تليق بدعاة الحرية والكرامة والحقوق وبقية الأفكار التي قدمت كقربان لشعار “الدولة” الموعودة..!
جمال جصاني
ما أصغر الدولة…!
التعليقات مغلقة