وهج الأعوام ..

خالد الوادي

حين انتقلت إلى عمق الشارع ، أبحث عن صيدلية ، تركت ورائي ذلك الشيخ الذي مضى حياً قرابة السبعين عاماً وما زال ، كان يشكو من انتفاخ بطنه ، ثمة حزن عميق آخذ بالترنح يجوب تجاعيد وجهه الهادئ . حزن لازمه منذ البداية ، اكتشفته مع بواكير طفولتي ، وما أن غادرتها حتى تلبسني ذلك الحزن كإرث منه ، جاء سلسا منساباً مع جيناتنا العائلية .
في كثير من الأحيان كان يتأملني وتجرفه عاطفته التي ظلت على حالها ، ندية وصادقة وأيضا حزينة ، كان والدي مستنيراً ويسمح لي بالتفكير على طريقتي الخاصة ، يسمح لي بالنقاش حتى مع من يكبرني سنا ، لكنه في هذه الأيام لزم العزلة أكثر من ذي قبل ، وهي الصفة الملاصقة لشخصيته .
كان الليل سارياً في تلك الليلة الهادئة برغم ضوضاء مولدات الطاقة ، أبحث بالطرقات عن النور المخبأ في ثنايا الدكاكين ، لم تكن ليلة عادية ، بل ليلة استثنائية أغلقت على الناس أبوابهم ، انعطفت مسرعاً نحو الشارع الرئيسي الذي بدا هو أيضا مظلما باستثناء بعض المصابيح الخافتة . كنت أفكر بحرية ، ووضعت الكثير من الخيارات أمامي في حال لم أجد دواء لوالدي .. أنتقل إلى مكان أخر مثلاً ، يبعد مسافة ليست بالقصيرة ، أو أعود إلى البيت وأنقله إلى المستشفى ، أو أصنع له شراباً من بعض الأعشاب عسى أن يرتاح ويزول ذلك الانتفاخ اللعين .
تركته وحيداً يطالع جدران البيت ، يتأمل ابتسامة والدتي التي أضحت بمنزلة صبغة لحجرة المعيشة ، فمنذ رحيلها وصورتها الكبيرة توسطت جدار الحجرة ، بالحقيقة كنت معارضاً لهذا التصرف ، فانا مؤمن بالنسيان وأقول دائما .. ( الانتصار على الألم هو الحل ) . كنت شاباً حينها ولم أعرف معنى أن يكون المرء معيلا لعائلة كما كان أبي ، تلك العائلة الآخذة بالتبخر .. الأولاد الصغار كبروا مع الوقت ، تزوجوا وكونوا عائلات صغيرة ما زالت تنمو مع الأيام .
يا للمفاجأة .. ها هي صيدلية مشرعة الأبواب .. وجدتها في آخر الشارع وقد بدا على صاحبها التململ ، كانت الرفوف مكتظة بالأدوية والعطور والصابون الفاخر .. سألته :
ـ هل لي بدواء يزيل الانتفاخ ؟ لقد تركت الشيخ مثقلا بالغازات المجهدة .
ـ كم عمره ؟
ـ سبعون .
ـ هل يشكو من العسر ؟
ـ أعتقد ذلك .
أتى الرجل بشريط الأقراص المدورة البيض، أمرني بإعطائه قرصين يتركهما يذوبان بفمه .
سألته :
ـ هل الدواء فعال ؟
رد بتفاؤل :
ـ الدواء كالسحر ، وها أنت تمتلك شريطاً كاملا من السحرة الصغار .
كانت عودتي إلى البيت سريعة ، لم أعد أفتش عن شيء ، انعطفت إلى الشارع الضيق ، ومع انعطافي شعرت بارتجاج الهاتف في جيبي ، أصبحت قريباً من البيت حين حاولت الرد على المكالمة . ( الوالد ) هكذا جاء أسمه مضيئاً فوق سطح الشاشة ، تركته يرن ودخلت أمشي هادئا في عمق الرواق المؤدي إلى الحجرة التي تركته فيها ، لم أجده ، بل وجدت السكون ورائحة البيت العتيقة ، الملازمة لتفاصيله ، أمسكت بالهاتف من جديد محاولا الرد ، لكن الاتصال انقطع بعد وقت طويل من الرن .. قلت مع نفسي :
ـ ما الذي يحصل ؟ أين الشيخ ولماذا الاتصال ؟
في تلك الأثناء دخل والدي معبئا بالحزن ، كانت عيناه محملتان بعتب عميق .. هتف بي :
ـ أين كنت ؟ لقد أقلقتني وجالت في رأسي آلاف الأفكار ..
جلسنا معاً، منحته قرصين وضعهما في فمه . واستغرقنا نتبادل الحديث .. حدثته عن آلام المفاصل التي تنتابني طوال الوقت ، وعن أعباء العمل والشوارع المكتظة والخوف من المجهول .. قاطعني مبتسما :
ـ ما زلت شاباً بني .
قلت :
ـ أنا الآن بالخمسين يا أبي .
سكتنا لبرهة ، ظل الصمت يرن بأعماقنا ، ثم جاء التجشئ كاسراً طوق الصمت ، لقد تجشأ الشيخ ، ثم تجشأ ، وشعرت بذلك المقدار من الوهج الجميل الذي طفح سريعا على وجهه المجعد .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة