الصورة السينمائية في حيّز مسرود

كه يلان مُحَمَد

على الرغم من وجود التواصل بين السينما والرواية، وتحويل الروايات التي حققتْ مستوى عالٍ من المقروئية إلى مواد فيلمية، وذلك بدافع تكرار النجاح على الصعيد السينمائي،كما أنَّ الروائيين من جانبهم يوظفون تقنيات السينما في بناء مؤلفاتهم السردية،غير أنَّ هذا التلاقح لايُلغي ماتتمتعُ به كل من الرواية والسينما من الخصوصية، إذ بينما اللغة هي الوسيلة التعبيرية الأساسية في الرواية فإنَّ الصورة هي الأداة التي تعتمدُ عليها الأفلام السينمائية لنقل الفكرة، ويؤكدُ الكاتبُ والروائي الإيطالي (إمبرتو إيكو) على حتمية التغييرات في عملية إنتقال الفكرة والتعبير من جسم الكتاب إلى جسم الفيلم مشيراً أن الفيلم قد يكشفُ ما كتمهُ الكتاب، أو ربما يقولُ الكتابُ مايسكت عنه الفيلم،الأمر الذي يُفسر لنا رغبة المشاهد الذي تابع فيلما سينمائيا مأخوذاً مادتهُ من الرواية أو القصة لقراءة العمل كماهو معروض بين دفتي الكتاب،وتنشأُ هذه الرغبة من إدراك المُتابع لما كتمه الفيلم.هذا فيما يتعلقُ بنقل العمل من حيزه اللغوي إلى الشاشة ،ماذا بشأنِ سرد الفيلم شفوياً،هل يكتفي الساردُ برواية ماشاهده فقط،أو يغريه سحرُ السرد بإضافة مايدفنه في مخيلته إلى نسيج الفيلم المسرود؟ جواب هذا السؤال يأتي ضمن مايتناولهُ الكاتب التشيلي (إيرنان ريبيرا لتيلير) في عمله المعنون بـ(راوية الأفلام) الصادرة من «داربلومزبري مؤسسة قطر للنشر» عن حياة أسرة تاق أفرادها إلى مًشاهدة كل جديد من الأفلام في سينما المركز بقرية تصفها الراوية بالمعكسر المنجمي ،كما يتابع المتلقي من خلال وجهة نظر ماريا مرغريتا التي لاتمتلك مواصفات أبطال تقليدية.تقلب أمزجة أهالي القرية بفعل وصول الأجهزة الجديدة ما تنزعُ الأفضلية من السينما لدى جمهوره،كما يرافقُ هذه التحولاتُ تناثرُ أفراد الأسرة بعدما تخبوُ رغبة متابعة الأفلام لديهم ويميلون إلى مجالات أخرى.

لحظة الإختيار
تبداُ الراوية التي تستخدمُ ضمير المتكلم بشرح الوضع الإقتصادى للأسرة في عبارات مُختصرة،ومن ثُم تتوقف عند عدد أفراد الأُسرة وهم أربعة ذكور فتاة واحدة،إذ أن هذه البيئة الذكورية قد إنعكست على تصرفات وطبيعة (ماريا مرغريتا) التي ترافق أخوتها إلى مناطق إنتشار نترات ملح البارود لقتل الحرازين كما كانت تشاركُ في ألعاب بعيدة عن خصوصية الأُنثى،وفي إطار هذا السرد الإنسيابي تردُ إيماءات توضحُ ما ألمَّ بالأُسرة من المصائب حيثُ يعاني الأبُ من العاهة المزمنة جراء ماتعرض له في الشغل ومازاد من حدة الحزن في الأُسرة هو غياب الأم التي هربت من أجواء كابية ولم تتحمل أن تكون زوجةً لرجل مُقَعَد،وبذلك يخلو البيت من البهجة وأنَّ الحب القائم بين الزوجين قد تبخر،إذ تشير الساردة إلى ماكان عليه أمرُ الأسرة قبل الكارثة حيثُ أن الأم تستقبل زوجها بقبلة حارة حالما يعودُ من العمل، وتستعيدُ الراوية طقوس الأسرة في الذهاب إلى السينما كلما يحينُ موعد عرض فيلم جيد،إذ يصحبُ الزوجان السعيدان أولادهما، وفي الطريق كل من يصادفهم يحي المعلم (كاستييو) ويسترقُ النظر إلى زوجته الجميلة.ومن ثُم تستعيدُ ماريا مرغريتا اللحظات التي تروي فيها الأم ماشاهدتهُ من أفلام، إذ تورثُ منها الإبنةُ موهبة رواية الفيلم،وتظلُ هذه الموهبة دفينةً إلى أن يبدأُ الإختبارُ لإختيار موفد الأسرة إلى السينما،بما أنَّه لم يُعدْ بإمكان الأب إرتياد دور السينما لأنَّه أصبح مشلولاً،قرر إجراء إختبار بين أولاده لإكتشاف من يتميز بينهم في القدرة على السرد بأسلوب شيق،ويتمكنُ في نقل فكرة الفيلم وتفاصيل الأحداث لمن لم يشاهد المادة المعروضة في السينما،يشاركُ الجميع في هذا الإمتحان ويتفاوت مستواهم في إستعادة حيثيات الفيلم شفوياً،لكن ماريا مرغريتا الفتاة المسترجلة تبهرُ الحاضرين في غرفة المعيشة بإعادة تثميل الفيلم المكسيكي عبر كلمات،بحيثُ لم يتمالك الأبُ ولا الأخوة من البكاء فالبتالي تفوز ماريا وتُصبحُ راوية الأفلام ليس لأسرتها فحسب بل لكل البامبا.

الإفتتان بالحكي
لاتتوقف حالة الإعجاب بتفوق ماريا في رواية الأفلام داخل الأسرة بل يذيع صيتها في القرية ويطلقون عليها (حورية ديلسين) وذلك بعدما يشاركُ نفر من أهالي القرية في الإستماع إلى الأفلام المروية على لسان (ماريا) إذ تتعاقد بعض النساء العجائز مع الراوية بغرض إسترجاع نتفاً من ذكريات الصبا،وأول من تعاقدت مع (ماريا) هي السيدة «ميرثيديس»التي تشتغل خياطة في القرية،عندما تذهبُ (ماريا) إلى أي بيت لرواية الأفلام تحمل صندوقها المليء بالأكسسوارات والملابس الإسبانية،وبهذا يبينُ ما للحاسة البصرية من الدور على إستدراج المقابل،ضف إلى ذلك فإنَّ الراوية لاتقفزُ على الفقرات الغنائية بل راح تعيدُ غناء ماتخلل الفيلم من الأغاني وتبلغ براعة (ماريا) إلى مستوى تتخيلُ المشاهد لأفلام قد سمعت عنوانها فقط،وهذا الموقف هو ماتراه في رواية فيلم قديم (قبلات سحرية) للمرأة المُسنة (دونيا فيليبيرتا).بعدما تتعرف على مُلخص الفيلم على لسان العجوز تنطلقُ مخيلة (ماريا) مسترسلةً في سرد الفيلم مُتضمنةً إضافات كثيرة،يتوافدُ، كانت ماريا محترزة من ذكر أو الإشارة إلى الخيانات الزوجية في الأفلام التي ترويها حتى لاتنكأ جروح والدها الذي خذلته زوجته عندما هربت وهي في السادسة والعشرين من عمرها،ولايصعبُ على (ماريا) معالجة إنقطاعات الفيلم، وكانت تعيد ترتيب القصة في ذهنها وبذلك تكون المادة جاهزة،وهذا النجاح والتفوق الذي تحزره (ماريا) في رواية الأفلام يستقطب أهالي القرية وتتحول غرفة المعيشة الى صالة السينما، يتوافد عليها الأطفال والعجائز وتتقاضى الأسرة رسم الدخول،

القاتل المجهول
لكن الأمر لايستمرُ بهذه السلاسة بل يتحرش مرابي القرية (دون نولايكو) ب(ماريا) فالأخيرة بدورها تخبر اخاها الكبير.ولايمرُ كثير من الوقت حتى يعثر على الرجل المكروه مقتولاً،وستظل هوية القاتل مجهولاً إلى أن يتبجحُ مع رفقائه وهو سكران بأنه قاتل المرابي.يشارُ إلى أنَّ هذا الفاصل الزمني القائم بين مقتل المرابي وإكتشاف الفاعل وراء هذا الحدث يُحسب للكاتب كما يُضيف لبناء الرواية لجهة ترابط أجزائها.ومايُعَمِقُ من البعد التراجيدى في هذا الحدث هو إنفراط عقد الأسرة بعد موت الأب أثناء أصغائه لإبنته،كما أن ظهور الآلة الجديدة (التليفزيون) تسحب كل الأضواء وينتهي دور الراوية وتبدأ عملا كمرشدة سياحية بعدما تخلو القرية من الناس إذ تعرض أعداداً من مجلة (إيكران) السينمائية أمام الزوار،فضلاً عن ذلك توجدُ تلميحات لأحداث سياسية على المستوى العالمي والمحلي في مضامين الرواية مثل وصول الإنسان إلى القمر وإنتصار الثورة الكوبية، ينتهي العمل بعودة الأم الى القرية من دون أن تظفر بلقاء أحد أبنائها،قبل أن تموت.إذا فتشت عن سر هذا العمل فلاتجد غير وضوحه وبساطته والإبتعاد عن موضوعاتِ مُستهلكة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة