علي حسن الفواز
المُنظّرون في قصيدة النثر أكثر من كتّابها، والعارفون بأسرار العلاقة ما بين الضدين ( الشعر- النثر) أقل بكثير من الذين تجرأوا على كتابتها بوصفها مغامرة، أو مجاهرة بوهم التحديث الشعري…
الرؤية العربية لقصيدة النثر لم تخرج كثيرا عن لعبة شروط سوزان برنارد، إذ يعمد بعض النقاد الى وضع شروط أكثر معيارية في فرض قصدية كتابتها، برغم أنّ مفهوم قصيدة النثر ونمطه الغربي مازال ملتبسا، وغير قار في التداول النقدي، وأنّ ما يتم فرضه هو الصورة المتخيّلة عن تلك القصيدة، والتي كرستها جماعة شعر بشكل خاص، لاسيما تجربة أنسي الحاج..
الوضوح واللاوضوح في كتابة قصيدة النثر لم يعد هو الأمر الأكثر إثارة، فهذه القصيدة تتطلب هيكلا، وسياقا، مثلما تتطلب رؤيا لها ضرورتها في تحديد هوية هذه القصيد..
الوضوح يعني كتابةً تدركُ أسبابَ المبنى الشعري، وتقانات تركيبه، على المستوى التصويري والاستعاري، وعلى المستوى الذي يخصّ حيازة اساسيات هذه الكتابة، كالقصدية والمجانية والتوهج والكثافة وهي مجالات نظرية من الصعب تغييبها عن السياق الشعري لقصيدة النثر..
واللاوضوح لايعني النفور العبثي عن النمط، ولا يعني كذلك الذهاب بعيدا في (غربنة) الكتابة الشعرية وتهجينها، وهذا ليس تعبيرا عن ما يشبه التناقض، ولا عن كراهية البقاء في النمط أو الخروج عليه، بقدر ماهو تعبير عن وعي مغاير وضروري بالكتابة الشعرية، وبفهم تحولاتها التاريخية والبنائية وما طرأ عليها من تغيّرات مسّت هويتها ووجودها ووظائفها وطرائق كتابتها..
كما أنّ هذا الأمر لايعني أننا فقدنا وجودنا ك(أمة الصوت الشعري) كما يقول الوهم النقدي، بل لأننا بُتنا أكثر حذرا في التعاطي مع شكلٍ كتابي جديد ومثير، حيث تجد فيه الأذن العربية الصحراوية تناغما مع لامقاميته ولا مع نثريته وكتابته المفتوحة.. فنحن تعودنا تاريخيا على أنْ نكتب الشعر ونغنّيه، ونمارس التهويم به بوصفه نداء مُنغَّما، وفعالية صوتية تتطلب سياقا، والفة واصغاء، فضلا عن مايمكن أنْ تكشف عنه القراءات السسيوثقافية من تفاعلات تستدعيها التحولات التاريخية، مثلما تتطلبها حاجات الكتابة ذاتها، والتي أضعفت فيها قيمة الصوت والايقاع المباشر، والبناء الوزني والتفعيلي الصارم، فضلا عن تأثّر هذه الكتابة بمعطيات المدينة، وبأنماط خطابها ولغتها الخفيضة، وعلاقة ذلك بتداول السرديات والشعريات، وصولا الى مفهوم التحوّل عند الكائن ذاته، من خلال التحولات الكبرى في انماط تلقيه ومعيشه وتعليمه، وفي أنماط تواصله واستهلاكه للمعرفة، بما فيها المؤثرات التي جاءت مع الترجمات ونشوء المدارس الحديثة وتطور وسائل والتواصل والميديا والسفر والمشاركة في المهرجانات والمؤتمرات.. فقصيدة النثر في هذا السياق هي قصيدة تفاعلن وتأثّر، مثلما هي صدمة في الشكل وفي تلقي المعنى، وفي صدمة الفكرة والعبارة، وفي ما يتداعى من صدمة الحرية والارادة…
التقنيات التي يتحدث بها (البعض) في سياق تكريس ظاهرة قصيدة النثر العربية ماتزال محدودة، فهي اجترار للأطروحات التي سوّق اشاعتها ادونيس وأنسي الحاج، وجماعة شعر بشكلٍ عام، والتي استجلبت معها كثيرا من الترجمات، لاسيما ل(سوزان برنار) إذ تحوّل المطارحات حول كتابها الشهير( قصيدة النثر من بودلير الى يومنا هذا) الى نوع من الصدام مع التاريخ والمزاج والوعي والصوت، وحتى مع المقدّس، فضلا عن هذه القصيدة ظلت نخبوية، إذ لم تجد لها في الاجيال الجديدة من(شفعاء) يبصرون فيها وعي المغامرة(العربية) ففي كل قصيدة تُكتب ثمة من يتحدّث عن بودلير أو والت ويتمان أو سان جون بيرس، أو الن غيسنبرغ وغيرهم..
هناك الكثير من المهرجانات التي عُقدت لمناقشة هوية هذه القصيدة، فبلأمس اجتمع عدد من الشعراء والنقاد في القاهرة ليناقشوا شرعنة القصيدة، وغم أنهم كانوا يناقشون محنة تلقيها وتكريسها في المدونات الشعرية، إلّ أنهم كانوا يناقشون أيضا علائق هذه القصيدة مع التاريخ والوجود، وضمن مقاربات كلّ ما تستدعي فعالية( النقد الثقافي) الغائب عن القراءة في هذا النقاش المفتوح، وليس بعيدا ما ناقشه كذلك عديد من النقاد والشعراء في ملتقى قصيدة النثر الثالث في البصرة مؤخرا، إذ عمد منظّمو هذا الملتقى الى التبشير بهذه القصيدة من خلال مشاركة أجيال متعددة فيها، لاسيما من الشباب والنساء، وحتى الأوراق النقدية كانت أكثر اقترابا من تقانات البحث الاجرائي للقصائد التي قرأت في الملتقي، وبإتجاه خلق طقوس للتعرّف، ولما يمكن أنْ تثيره قراءات هذه القصائد من أسئلة تخصّ كتابتها وتلقيها، وهو مايُحسب له بعيدا عن تعقيدات التنظير والجدل حوله، وهو ماتحفل به مؤتمراتنا ومهرجاناتنا وملتقياتنا الثقافية..