نوريل روبيني
أستاذ في كلية ستيرن للأعمال في جامعة نيويورك
منذ صيف عام 2016، شهد الاقتصاد العالمي فترة من التوسع المعتدل، مع تسارع معدل النمو تدريجيا. أما الذي لم يرتفع، في الأقل في الاقتصادات المتقدمة، فهو التضخم. والسؤال هو لماذا.
في الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان، وغيرها من الاقتصادات المتقدمة، كان تسارع النمو مؤخرا مدفوعا بزيادة في الطلب الكلي، نتيجة لسياسات نقدية ومالية توسعية مستمرة، فضلا عن ارتفاع ثقة الأعمال والمستهلكين. وكانت الثقة مدفوعة بتراجع مستويات المخاطر المالية والاقتصادية، إلى جانب احتواء المخاطر الجيوسياسية، التي لم تخلف نتيجة لهذا سوى تأثير ضئيل على الاقتصادات والأسواق حتى الآن.
ولآن زيادة الطلب تعني تراجع الفتور والتراخي في أسواق المنتجات والعمل، كان من المتوقع أن يؤدي تسارع النمو الذي شهدته الاقتصادات المتقدمة مؤخرا إلى ارتفاع معدلات التضخم. ومع ذلك، انخفض معدل التضخم الأساسي في الولايات المتحدة هذا العام ويظل منخفضا بعناد في أوروبا واليابان. ويخلق هذا معضلة للبنوك المركزية الرئيسة ــ بدءا بمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي والبنك المركزي الأوروبي ــ التي تحاول التخلص تدريجيا من السياسات النقدية غير التقليدية: فقد نجحت في تأمين النمو الأعلى، ولكنها تظل عاجزة عن بلوغ هدفها المتمثل في معدل تضخم سنوي قدره 2%.
من التفسيرات المحتملة لهذه التركيبة الغامضة من النمو الأقوى والتضخم المنخفض أن الاقتصادات المتقدمة كانت تشهد صدمات إيجابية على جانب العرض إضافة إلى الطلب الكلي الأقوى.
وقد تأتي هذه الصدمات في أشكال عديدة. فالعولمة تساعد في إدامة تدفق السلع والخدمات الرخيصة من الصين وغيرها من الأسواق الناشئة. وساهم ضعف قوة التفاوض من قِبَل النقابات والعمال في تسطح منحنى فيليبس، مع تسبب انخفاض البطالة البنيوية في انخفاض تضخم الأجور. وكانت أسعار النفط والسلع الأساسية فضلا عن ذلك منخفضة أو في انحدار. كما تعمل الإبداعات التكنولوجية، بدءا بثورة الإنترنت الحديثة، على الحد من تكاليف السلع والخدمات.
تشير النظرية الاقتصادية القياسية إلى أن استجابة السياسة النقدية الصحيحة لمثل هذه الصدمات الإيجابية على جانب العرض تعتمد على استمرارها. فإذا كانت الصدمة مؤقتة، لا ينبغي للبنوك المركزية أن تتفاعل معها؛ بل ينبغي لها أن تعمل على تطبيع السياسة النقدية، لأن الصدمة ستزول في نهاية المطاف بنحو طبيعي، ومع إحكام قيود أسواق المنتجات والعمل، سوف يرتفع التضخم. أما إذا كانت الصدمة دائمة، فينبغي للبنوك المركزية أن تعمل على تخفيف الظروف النقدية؛ وإلا فإنها لن تتمكن أبدا من الوصول إلى هدف التضخم.
وهذه ليست أخبارا جديدة بالنسبة للبنوك المركزية. فقد برر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي قراره بالبدء في تطبيع أسعار الفائدة، على الرغم من انخفاض التضخم الأساسي عن المستوى المستهدف، بحجة أن صدمات جانب العرض التي تضعف التضخم مؤقتة. وعلى نحو مماثل، يستعد البنك المركزي الأوروبي لخفض مشترياته من السندات تدريجيا في عام 2018، على افتراض أن التضخم سيرتفع في الوقت المناسب.
وإذا كان صناع السياسات مخطئين في افتراضهم أن الصدمات الإيجابية على جانب العرض التي تتسبب في انخفاض التضخم مؤقتة، فربما يكون تطبيع السياسة النهج الخاطئ في التعامل مع الأمر، وربما يجب أن تستمر السياسات غير التقليدية لفترة أطول. ولكن هذا قد يعني العكس أيضا: فإذا كانت الصدمات دائمة أو أكثر استمرارا من المتوقع، فلابد من ملاحقة التطبيع بسرعة أكبر، لأننا وصلنا بالفعل إلى مستوى «طبيعي جديد» للتضخم.
وهذا هو الرأي الذي أخذ به بنك التسويات الدولية، الذي يزعم أن الوقت حان لخفض هدف التضخم من 2% إلى صِفر ــ وهو المعدل الذي يمكن توقعه الآن، نظرا لصدمات العرض الدائمة. ويحذر بنك التسويات الدولية أن محاولة تحقيق مستوى التضخم بنسبة 2% في سياق مثل هذه الصدمات من شأنه أن يؤدي إلى سياسات نقدية شديدة التساهل، وهذا بدوره يفرض ضغوطا تدفع أسعار أصول المخاطر إلى الارتفاع، ثم يؤدي في نهاية المطاف إلى تضخيم فقاعات خطرة. ووفقا لهذا المنطق، ينبغي للبنوك المركزية أن تعمل على التعجيل بتطبيع السياسة، وبوتيرة أسرع، لمنع اندلاع أزمة مالية أخرى.
الواقع أن أغلب البنوك المركزية في الدول المتقدمة لا تتفق مع بنك التسويات الدولية. فهي تعتقد أنه في حالة حدوث تضخم أسعار الأصول، فمن الممكن احتواؤه بالاستعانة بسياسات الائتمان الاحترازية الكلية، وليس السياسة النقدية.
بطبيعة الحال، تأمل البنوك المركزية في الدول المتقدمة أن لا يحدث تضخم الأصول على هذا النحو على الإطلاق، لأن التضخم تعوقه صدمات العرض المؤقتة، وبالتالي فسوف يزداد بمجرد إحكام أسواق المنتجات والعمل. ولكن في مواجهة احتمال أن يكون التضخم المنخفض اليوم ناجما عن صدمات العرض الدائمة، فإنها أيضا غير راغبة في المزيد من التخفيض الآن.
وعلى هذا، فحتى برغم أن البنوك المركزية ليست على استعداد للتخلي عن هدف التضخم الرسمي بنسبة 2%، فإنها على استعداد لإطالة المدى الزمني لتحقيقه، كما فعلت المرة تلو الأخرى، وهي بهذا تعترف فعليا بأن التضخم ربما يظل منخفضا لفترة أطول. وإلا فإنها ستضطر إلى الإبقاء لفترة أطول على سياساتها النقدية غير التقليدية، بما في ذلك التيسير الكمي، وأسعار الفائدة السلبية ــ وهو النهج الذي لا تشعر معه بالارتياح أغلب البنوك المركزية (ربما باستثناء بنك اليابان).
الواقع أن صبر البنوك المركزية لا يخلو من المجازفة بدفع توقعات التضخم إلى الانخفاض. ولكن الاستمرار لفترة أطول مع السياسات النقدية غير التقليدية ينطوي أيضا على مخاطر غير مرغوبة، مثل تضخم أسعار الأصول، ونمو الائتمان المفرط، ونشوء الفقاعات. وما دامت حالة عدم اليقين بشأن أسباب انخفاض التضخم باقية، فسوف تضطر البنوك المركزية إلى الموازنة بين هذه المخاطر المتنافسة.
سر التضخم المفقود
التعليقات مغلقة