مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
تستعد الدولة اللبنانية بجيشها بجميع أجهزتها الأمنية لتحرير الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم داعش في منطقة الجرود المتاخمة للحدود السورية، وذلك من خلال عدة إجراءات، من أهمها: استهداف داعش عسكريًّا لاستنزافه وحصاره، وتوفير الغطاء السياسي للجيش لشن المعركة طبقًا للظروف الميدانية، مع الوضع في الاعتبار رفض الجيش لأي مساعدة خارجية أو داخلية خاصة من حزب الله الذي يحاول التنسيق بنحو مباشر وعلني مع الجيش اللبناني في القضاء على داعش.
وبالرغم من التداعيات المحتملة الناتجة عن محاربة لبنان لتنظيم داعش؛ إلا أن الدولة مُصرّة على إتمام تلك المعركة لتحرير أراضيها، مع الوضع في الاعتبار التخفيف مستقبلاً من تبعات المعركة التي قد تتضمن خسائر بشرية ومادية، والقيام بعمليات انتقامية في الداخل اللبناني، وتمكين حزب الله من المناطق الحدودية السورية اللبنانية ترسيخًا للنفوذ الإيراني، مع احتمالية وقف المساعدات العسكرية الأمريكية لبيروت في حالة وجود تنسيق بين حزب الله والجيش اللبناني.
وقد اتخذت الدولة اللبنانية عدة تدابير عسكرية وأمنية وسياسية للتمهيد لمعركة تطهير منطقة الجرود (من جرود عرسال جنوبًا، إلى جرود رأس بعلبك شمالاً في شمالي شرق لبنان) من التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش، تمثل أهمها في التالي:
1- تكثيف الإجراءات الأمنية في المدن والقرى المتاخمة للحدود السورية، مثل بلدة القاع الواقعة في شمال شرقي لبنان، ومن أهم تلك الإجراءات منع التجول ليلاً خوفًا من القيام بأي عمليات انتحارية، إضافة إلى وضع المخيمات التي يقطنها اللاجئون السوريون تحت المراقبة المستمرة من القوى الأمنية والجيش، وهو ما أسفر عن إحباط قوى الأمن الداخلي في شمال لبنان محاولة شاب لبناني إطلاق النار على المصلين في الجامع المنصوري الكبير في طرابلس في 7 أغسطس الجاري انتقامًا لتنظيم داعش.
2- استهداف الجيش مواقع تنظيم داعش بواسطة المدفعية الثقيلة والقصف الصاروخي، إضافة للسيطرة على بعض التلال الاستراتيجية عند التماس بين جرود عرسال وجرود رأس بعلبك (مثل تلة النجاصة وتلال دوار الزنار)، بالإضافة إلى عزل وتطويق عناصر تنظيم داعش في الجرود بعيدًا عن بلدة عرسال. وفي الإطار نفسه، هناك مفاوضات مع سرايا أهل الشام (التابعة للجيش السوري الحر) للمغادرة من جرود عرسال إلى سوريا، بما يتيح للجيش اللبناني الانتشار في المنطقة، تمهيدًا للمواجهة مع عناصر داعش.
3- منح التغطية السياسية للجيش في حربه ضد تنظيم داعش، ومن دلالات ذلك القرارات التي صدرت في الاجتماع الطارئ للمجلس الأعلى للدفاع في 9 أغسطس الجاري، حيث تم التأكيد على ثقة المجلس بقيادة الجيش وتفويضها في تحرير جرود القاع والفاكهة ورأس بعلبك من المجموعات الإرهابية، على أن يعود لها وحدها تحديد التوقيت للبدء في الهجوم لأنها أدرى بالوضع الميداني على الأرض.
موقف حزب الله:
أكد الأمين العام لحزب الله «حسن نصر الله» (في كلمة متلفزة بعد تحرير جرود عرسال في 4 أغسطس الجاري) على التالي:
1- «نحن حزب الله في خدمة الجيش اللبناني، وسوف ننفذ كلّ ما يُطلب، ونحن مع الجيش وبتصرفه وإلى جانبه، ونريد أن يحقق الجيش انتصارًا سريعًا حاسمًا.
2- «في الجرود من الجهة السورية ستُفتح الجبهة على داعش، وهناك سيكون الجيش السوري وحزب الله، وهي جبهة أطول».
3- «يجب أن يتم وضع النكد والكيد السياسي بعيدًا عن المعركة لكي تكون الجبهة واحدة، وتوقيت الجبهة هو بيد الجيش اللبناني لأننا في الجهة الثانية جاهزون لها».
في السياق نفسه، أكد الأعلام الحربي التابع لحزب الله في 6 أغسطس الجاري، أنّ عناصر الحزب استهدفت بالقصف المدفعي والصاروخي تجمعات لمسلّحي داعش قرب خربة داود عند الحدود السورية اللّبنانية، مما أدّى إلى وقوع قتلى وجرحى في صفوف مسلحي التنظيم، كما تفاوض الحزب مع تنظيم جبهة النصرة لترك مناطق جرود عرسال وتبادل الأسرى بين الجانبين، تحت إشراف قوى الأمن اللبناني والصليب الأحمر اللبناني.
استراتيجية التطهير:
اتضح من التحركات التي يتخذها الجيش اللبناني، ومن بعض الإيضاحات من مصادره، انتهاج استراتيجية قائمة على عدة ثوابت، وذلك من خلال التالي:
1- الجيش لا يريد التنسيق مع أحد في المعركة التي ستُخاض على الأرض اللبنانية ضد داعش، مع التشديد بأنه لا يوجد تنسيق مع أحد لا في الداخل ولا في الخارج (الجيش السوري، قوات التحالف الدولي خاصة الولايات المتحدة الأمريكية)، وهو معنيّ فقط بالحرب على الأرض اللبنانية، ولن يتخطّى سنتيمترًا واحدًا خارج الحدود اللبنانية.
2- اعتماد استراتيجية القضم مع عناصر تنظيم داعش، وذلك من خلال التضييق عليهم، واستنزافهم بالكامل، وإنهاكهم، ومنع وصول أيّ إمدادات لهم، إضافةً إلى ملاحقة تحرّكات أفراده ورصدهم من الجوّ وضربهم، وذلك في محاولة لإعلان التنظيم استسلامه وانسحابه من الأراضي اللبنانية من دون الدخول في مواجهات مباشرة معه.
ويتضح من المواقف الرسمية للمسؤولين اللبنانيين أنه لا يوجد أي تنسيق عملياتي بين الجيشين اللبناني والسوري فيما يختص بالمعركة المرتقبة لتحرير الجرود من داعش، ولكن في الوقت نفسه توجد إشارات إلى وجود تنسيق بنحو غير مباشر بين الجانبين، وهو ما أشار إليه الأمين العام لحزب الله «حسن نصر الله» في خطابه المتلفز لـ»مرحلة ما بعد الجرود»، والتي لفت فيها إلى استعداد الجيش السوري والحزب للمعركة بعد تحديد الجيش اللبناني لها.
وقد أشارت الصحف الإلكترونية المحسوبة على حزب الله بأن التنسيق بين الجيش اللبناني وحزب الله هو أمر محسوم؛ حيث إن الواقع الميداني يُحتِّم على الجيش اللبناني التعاون مع الحزب وجيش النظام السوري، خاصة وأن العدو واحد (داعش)، وحيث إن المساحة التي يسيطر عليها تنظيم داعش تبلع نحو 300 كلم مربع، وهي مناطق مرتفعة تعطي له أفضلية في القتال، وأشارت مصادر إعلامية موالية للحزب (صحيفة الأخبار بتاريخ 11 أغسطس الجاري) إلى أن قيادة المقاومة اتخذت قرارًا نهائيًّا لا عودة عنه، وهو عدم قبول استنزاف الجيش اللبناني أو جرّه إلى كمائن تؤدي إلى خسائر بشرية كبيرة في صفوفه، وسوف تقوم بكل ما تراه مناسبًا لمساعدة الجيش في تحقيق انتصار حاسم بأقل الخسائر الممكنة.
خسائر محتملة:
تواجه لبنان العديد من التحديات المحتملة الناتجة عن معركة تحرير الأرض من تنظيم داعش، وذلك على النحو التالي:
1- خسائر مادية وبشرية: يسعى الجيش اللبناني للتمهل في تحديد ساعة الصفر حتى إنهاء كافة تحركاته واستعداده، مستهدفًا تحقيق أقل خسائر خاصة في أرواح جنوده، في ظل أن المعركة المرتقبة ظروفها صعبة لطبيعة الأرض والمرتفعات في الجرود، وأن عناصر داعش لن يتوفر لها التقهقر للداخل السوري لوجود الجيش السوري وحزب الله، مما يجعل استشهادهم حتميًّا، كما أن الجيش يحاول -في الوقت نفسه- الحفاظ على أرواح المختطفين العسكريين (منذ أغسطس 2014) لدى التنظيم، منعًا لإثارة الرأي العام الداخلي في لبنان.
2- عمليات انتقامية في الداخل اللبناني: شهدت المدة الأخيرة بعض المحاولات التي تستهدف الداخل اللبناني والتي كان آخرها محاولة فتى عمره 14 عامًا إطلاق النيران على مصلين في مسجد بطرابلس، وهو الأمر الذي يُنذر بوجود مخططات للانتقام من الدولة اللبنانية، أو حتى بدوافع شخصية، ويدعم من ذلك وجود مخيمات اللاجئين التي تسلل إليها بعض العناصر الإرهابية، ووجود خلايا عنقودية قد تنشط في الفترة المقبلة لتنفيذ عمليات إرهابية.
3- تمكين حزب الله من المنطقة الحدودية: يرى حزب الله أن تلك المنطقة لها أهمية استراتيجية لأنها تدعم من سيطرة الحزب على الجانب السوري من الحدود، إضافة إلى أن اللاجئين السوريين القابعين بها يمثلون خطورة مستقبلية على التوازنات الطائفية في الجانب اللبناني لصالح المسلمين السنة، كما أنها بخلوها من عناصر داعش ستحقق الرؤية الإيرانية «سوريا المفيدة»، أي خلق تواصل جغرافي حيوي بين سوريا ولبنان حزب الله، تكريسًا للنفوذ الإيراني في المشرق العربي، وهو ما سيخلق العديد من الأزمات السياسية الداخلية مع قوى 14 مارس، خاصة تيار المستقبل.
4- وقف المساعدات العسكرية الخارجية: حذرت الولايات المتحدة الأميركية من خطورة وجود حزب الله في السلطة اللبنانية، ومشاركته في أي عمليات عسكرية تحت جناح الدولة، وكان آخرها ما أعلنه الناطق باسم وزارة الدفاع الأمريكية «إريك باهون»: «إذا عرفنا من تقارير ذات صدقية بوجود تكامل منسق بين القوات المسلحة اللبنانية وحزب الله، فسيؤدي ذلك إلى تحقيق جدي واتصالات للإبلاغ عن مخاوفنا»، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى وقف المساعدات العسكرية الأمريكية والأوروبية للدولة اللبنانية.
غطاء النجاح:
على الرغم من الخسائر سالفة الذكر؛ إلا أن المكاسب التي ستجنيها الدولة من القضاء على داعش ستوفر غطاءً لإنجاح هذه المعركة دون النظر لسلبياتها، خاصة وأن هناك توافقًا داخليًّا على ضرورة شن هذه المعركة في أقرب وقت، وبما يُمكّن الدولة من إعادة السيطرة على أراضيها، وأن أيًّا من الخسائر السابقة يمكن للسلطات اللبنانية التقليل من تداعياتها ووطأتها مستقبلاً، خاصة فيما يتعلق بالمساعدات العسكرية الخارجية، وبالتالي تنظر القيادات اللبنانية للخسائر على أنها نتيجة طبيعية لأي معركة قد تخوضها الدولة ضد أي طرف وليس تنظيم داعش فقط.