هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث

د. فخري قدوري
الدكتور فخري قدوري من أوائل البعثيين في العراق يكشف في كتاب ” هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث” معلومات عن صدام حسين الذي جمعته به علاقة عمل فرضت ملاقاته يومياً لمدة ثماني سنوات، ويقدم صورة واضحة لشخصية متواضعة في البداية، ومنتهية بتسلط ونكبات متتالية، حسب تعبير المؤلف.
وفي الكتاب أوصاف دقيقة لأحمد حسن البكر وصدام حسين وجوانب من عاداتهما الشخصية لم يطلع عليها غير المقربين منهما.ويصف المؤلف كيفية انتمائه إلى حزب البعث وسيرته الحزبية وتجاربه مع رفاقه في الحزب “بعد أن أصبح الحزب في نهاية الأمر محكوماً من قبل شخص واحد وأصبحت تنظيماته تحت مظلة الإرهاب تنفذ رغبات الحاكم المستبد”.
“الصباح الجديد” تنشر فصولاً من هذا الكتاب نظراً لدقة المعلومات التي سردها الدكتور فخري قدوري حول مرحلة الاستبداد والتفرد وطغيان صدام حسين.
الحلقة 8

قتل ام وفاة؟
في 15 كانون الاول/ ديسمبر عام 1984 بعد نحو عام على خروجه من المعتقل توجه شفيق الى عيادة طبيبه الدكتور حكمت حبيب لإجراء الفحوص الدورية وما ان وصل المكان رفقه ابنه يعرب حتى سقط مغشياً عليه بفعل نوبة قلبية حادة فنقل الى مستشفى اليرموك ببغداد صحبة الدكتور حكمت حيث وافاه الاجل.
كانت جموع المعزين تتوافد على مجلس الفاتحة صباح مساء من كل الاطياف الاجتماعية والسياسية معبرة عن الاسى لفقدان رجل احبه الناس لأخلاقه وانسانيته وادبه.
اعود الى ايام خروج شفيق من الاحتجاز حيث اصبح قليل الكلام حتى مع عائلته متجنباً ذكر تفاصيل ما جرى له خشية كلمة تفلت من لسانه تؤدي به هذه المرة الى مصيبة اعظم كما كان يخشى من اجهزة
تصنت في منزله وزرعها زمر المخابرات قبل ان تتركه الى جانب بقاء عيون واذان تلك الزمر مفتوحة على كل من يحيطه ويقترب منه.
ومن بين ما أسر به لزوجته تلقيه حقنة في اثناء وجوده في المخابرات على اساس مساعدتها في خفض ضغط الدم الذي كان يعاني منه! وظلت هذه الحقنة الى جانب ماكان يقدم له هناك من طعام وشراب محل تساؤل الجميع وبعد مغادرته المعتقل ثم وفاته بعد فترة قصيرة.
الثابت هو تعرضه بعد اطلاق سراحه الى تغيرات صحية حيث اكتشف الاطباء اصابته بسرطان الدم “لوكيميا” مؤكدين انه لن يحيا الا فترة وجيزة ليقرر نتيجة ذلك حصر الأمر بينه وبين زوجته وطبيبه وجاءت شهادة الوفاة الرسمية ذاكرة:
-1 السكتة القلبية و 2- ابيياض كريات الدم (سرطان الدم).
لم ينته حقد النظام عند هذا الحد فبعد مضي 16 عاماً على وفاة شفيق اعلن صدام امام جمع من الادباء في شهر تشرين الاول/اكتوبر 2000 عزمه على الغاء النشيد الوطني الذي كان وافق عليه وصدر بقانون قبل نحو 20 عاماً واستبداله باخر!
زوجته… رفيقة دربه الطويل
اقترن شفيق بابنة عمه الصغرى (سامية ياسين قدوري) عام 1956 وكان الاثنان منخرطين في صفوف حزب البعث واستمرت علاقتهما الزوجية والرفاقية الطويلة على المتانة حتى رحيلهما عن الدنيا.
كانت (سامية) عانت الكثير وخاضت صنوف المخاطر والصعاب بصبر خاصة اثناء اعتقال زوجها المتكرر ولدى اكتشاف الوكر الطباعي في منزل الزوجية مجازفة اكثر من مرة بالفرار مع اطفالها الى “البو كمال” و “دير الزور” حيث سكن الاقارب لتجنب التعقيب والمطاردة.
ظلت واقفة الى جانب زوجها ايام الشدائد خلال العهد الملكي واثناء حكم عبد الكريم قاسم عبوراً بفترة حكم العارف والعارف انتهاء بعهد صدام حسين.
في فترة الخمسينيات والستينيات قطنت العائلة داراً متواضعة مستأجرة في منطقة الاعظمية ببغداد خلف المقبرة الملكية حيث شهدت الدار سنوات الاعتقال والمطاردة والهرب.
وكانت الزوجة تمتهن التعليم ثم كرست حياتها في السنوات التالية لرعاية الشؤون الاجتماعية فتولت رئاسة جمعية مكافحة العلل الاجتماعية والاشراف على معهد رمزي للصم والبكم وذوي العاهات وتضمن المرسوم الجمهوري رقم 7 لسنة 1973 تعيينها عضواً في الهيئة العليا للرعاية الاجتماعية في العراق وبعد تولي البعث السلطة عام 1968 نشطت في المناسبات الوطنية والانشطة النسوية واصبحت معروفة لدى الكثير من القيادين في الحزب والدولة لكن هذا الموقف لم يشفع لها ولزوجها فيما بعد.
في صيف 1982 كان صدام يجول (اعلامياً) على مناطق ريفية شمال بغداد فاتجه الى دار شفيق الجديدة الواقعة على ضفاف دجلة (الصليخ) في الاعظمية وفوجئت زوجته بالزائر فيما كانت منشغلة في المطبخ في تلك الساعة وزوجها غارقاً في مهماته في بغداد وكان موكبه محاطاً برتل ضخم من الافراد وسيارات الحماية كما هي العادة.
دخل صدام الدار وجال في اركانها واعجب بالغرفة ذات الطراز العباسي ومفروشاتها الشرقية التي اقامها شفيق خصيصاً للجلسات الادبية والشعرية التي يتوق اليها مع اصحابه الادباء.. ولم ينه صدام الزيارة الا بعد نزوله الى قبو الدار للاطلاع على اللوحات الفنية التي رسمها شفيق بفرشاته وكان صدام يلاطف اهل الدار طيلة وقت الزيارة لما بينه وبين شفيق من علاقة وفاقية قديمة ولدور زوجته سامية النضالي في حزب البعث.
بعد انحسار دور شفيق في الحزب والسلطة وانتهاء الامر باعتقاله وابنه عام 1983 سعت قرينته شقيقتي الى توسط لدى صدام شخصياً للإفراج عن زوجها وابنها.
وقد روت لي انها ذهبت مع مجموعة رجال ونسوة متظلمين بسيارة كبيرة تابعة لأجهزة الامن مخصصة لهذا الغرض سارت بهم نحو مكان وخارج بغداد لم تستطع التعرف عليه واثناء الانتظار الطويل في الصالة واستدعاء المتظلمين فرداً لمقابلة صدام بقيت الزوجة متلهفة لدورها كأخر شخص لكنها فوجئت اخيراً برفض صدام مقابلتها فعادت ادراجها مكسورة نادمة على كل ما مضى من تضحيات وزمالة رفاقية!
وحلت بعد ذلك مرحلة شقاء اخرى ففيما رفع الحجز الواقع على الدار بعد نحو شهر من اطلاق سراح شفيق استمرت بقية ممتلكاته الاخرى محجوزة الى ما بعد وفاته واضطرت زوجته الى بيع ما تبقى لديها من محتويات ثمينة لتوفير لقمة العيش طيلة السنوات التي حرمت خلالها من راتب زوجها التقاعدي.
ومرة اخرى لم يستطع احد من محبي شفيق ومعارفه الكثر في بغداد التدخل في الامر حتى حانت الفرصة كانت بمنزلة مكرمة السماء اذ عقد في بغداد مهرجان المربد الشعري لدورته 1986/1987 شاركت فيه وفود من بلدان عدة من بينها وفد من دولة الكويت يتقدمه الاديب والشاعر احمد السقاف رئيس رابطة الادباء الكويتية الذي ربطته بالمرحوم شفيق علاقة متينة عزز لحمتها عالم الادب والشعر.
واذكر ان رابطة الادباء والكتاب العرب ورئيس تحرير مجلة “افاق عربية” ليكون ضيفها ويحيي امسية شعرية فيها فحضر الى جانب عدد كبير من المثقفين والادباء المستشرق الروسي فلاديمير شاغل وافتتح الامسية الاديب السقاف مقدماً ضيفه بأنه: الشاعر المبدع…والاديب اللامع والعروبي الذي لايقبل المساومة في المواقف الجهادية يعرفه من يعرفون الجهاد في سبيل المبادئ…
ثم أنشد شفيق قصائده رائعة من شعره الوطني والقومي الهبت العواطف والاحاسيس.
بعد مضي ستة اعوام على تلك الامسية الشعرية تشاء الصدف ان يحضر السقاف مهرجان المربد في العراق وهو يعلم بحزن ومرارة ان زميله وضيفه آنذاك شفيق قد ودع الحياة ليرقد تحت تراب المدينة نفسها التي تشهد عقد مهرجان الادب والشعر.
علم السقاف خلال وجوده في “قصر المؤتمرات” ببغداد بما ال اليه وضع عائلة شفيق واستمرار حجز املاكه فسارع رفقة نائبه الاديب خليفة الى زيارة العائلة والوقوف على التفاصيل.
بادر السقاف الى اثارة الموضوع لدى السلطات العراقية العليا وبعد ذلك قصيرة بادر بالاتصال هاتفياً من الكويت بزوجة المرحوم ليطلعها على وجود انباء سارة في الطريق.
وبالفعل تسلمت الزوجة بعد نحو اسبوع من الاتصال خطاباً من رئاسة ديوان رئاسة الجمهورية يرفع الحجز عن املاك شفيق الكمالي وبقيت الزوجة طيلة السنوات التالية مدينة للموقف المشرف للأديب السقاف الذي وافاه الاجل قبل زمن قصير من تحرير هذه السطور.
وبعد مضي نحو عشر سنوات على وفاة شفيق صدر قرار عام بتثبيت راتب تقاعدي لعائلة كل وزير سابق متوف فشمل زوجته هذا القرار.
ظلت سامية الرفيقة الحزبية القديمة تعاني من حقد السلطة ذلك الحقد الدفين الذي لم يمت بممات زوجها واصيب نتيجة بحالة الكأبة التي عمقها المكوث في منزل كان كل ركن فيه يذكرها بكفاح زوجها الوطني والقومي ونشاطه الادبي والفني فانتقلت للسكن في شقة متواضعة في شارع حيفا ببغداد وزاد الطين بلة رؤيتها الدبابات الاجنبية تدنس التراب بدخولها العراق عام 2003 مؤذنة بسلب معالم تاريخية ونهب ثرواته ورات في كل ذلك منتهى الاهانة والاذلال وهي ما زالت مرتدية الثياب السوداء حزناً على رحيل زوجها المناضل.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة