غناء النخيل

محمود الرحبي

صوت سميرة توفيق يحلّق من خصر نخلة تهز فروع رأسها رياح خفيفة. «دوّرو لي عن حبيب يقدر يحل بمحله/ يمكن يكون الطبيب إلي يداوي بِطلّة/ دوّرو لي عن حبيبْ/ دَورو لي عن حبيب/ دور لي عن حبيب/ دوّرو لي عن حَبيبْ»، يلتقط سالمين اسم جاره وينشره في الأرجاء.
سالمين، الذي لم يبق له من ماضيه سوى قوة صوته؛ كان في ما خلا من سنوات يقوم بأشق المهن بيديه ورجليه وظهره: يذبح أعند العجول وأسمنها ويحمل جذوع البناء فوق ظهره ويتسلق أطول النخلات بخفة من يركض حافيا، ولكن العمر امتد به حتى طعن وفقدَ القدرة على العمل. وصار يتبع ولده عبد الله أينما ذهب، ويكتفي بالجلوس إلى جانبه وهو يعمل والإنصات إلى الأغاني التي لا يتوقف الابن عن إشعالها اثناء عمله. وفي ذلك الصباح أدخل في جوف مسجله المعلق على جذع نخلة آخر الأشرطة التسجيلية التي وصلته من مطرح للمطربة سميرة توفيق.
كانت هذه الأشرطة تصل إلى عبد الله عن طريق خالته التي تقوم بجولات أسبوعية في سوقي فنجا ومطرح، لشراء حاجيات تبيعها لتعتاش من فوائدها، فيوصيها ابن اختها بشراء جديد أغاني سميرة توفيق من المحل العتيد «تسجيلات غالب الإلكترونية»، الذي يبيع الأشرطة التسجيلية، كما يقوم بعض الفنانين ومنشدي الأشعار بتسجيل أغانيهم وقصائدهم مباشرة فيه ونسخها وبيعها في عين المكان، وفي صرة بين ملابس وحناء وصابون وكحل ومرايا صغيرة وأمشاط ومبيدات حشرية لقتل القمل وما شابه من سلع متنافرة، ينتقل شريط سميرة توفيق، في علبته البلاستيكية المزينة بصورتها وهالة الشامة المعلقة على خدها الأيسر وغمزة جاذبة من عينها اليمنى اعتادت أن تهديها في ختام كل وصلة من وصلات أغانيها.
أنهت المغنية وصلتها الأولى التي كان يتكرر فيها اسم حبيب، فهتف العجوز منتشيا يستخفه الطرب:
-أوه حبيب تعال يدوروك. حبيييب تعال يدوروك. حبييييب.
التقطت زوجة حبيب اسم زوجها وهو يتردد في الأرجاء، حين كانت تملأ جبة سعفية بما تلتقطه من سقط العراجين؛ ولم تكن قد تفطنت بعد إلى الأغنية الجديدة، فهرعت إلى بيتها القريب وشرعت تنادي زوجها.
جفل حبيب من قيلولة الضحى واتجه مسرعا صوب جاره، فرآه جالسا بجانب ولده الذي كان يحرث الأرض ويقلبها بمسحاة.
-هل أرسلت في طلبي يا عمي سالمين؟
ضحك سالمين وتبادل النظرات مع ولده، الذي توقف عن العمل ورفع وجها معروقا ما لبث أن أضاءه الضحك.
أردف العجوز بعد أن هدأ سعاله:
-سميرة بنت توفيق تبحث عنك منذ الصباح يا حبيب وأنت لا تهتمّ.
فقام عبد الله متحمسا جهة المسجل وصعد عدة كربات من جذع النخلة وضغط على زر الإعادة، إذ كانت الأغنية المقصودة قد انتهت وحلت مكانها أغنية أخرى جديدة ليس فيها ذكر لحبيب، وحين بدأت المطربة في ترديد وصلتها «دوّرو لي عن حبيبْ/ دَورو لي عن حبيب/ دور لي عن حبيب/ دوّرو لي عن حَبيبْ» ضحك الجميع، وضحكت الأشجار والطيور المحلقة في الأفق، وسحب خفيفة تتقدم في السماء.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة