هشام أصلان
«جدعان زي عيدان الزان.. سايبن الأهل
وتطلي في عين الواحد، يا ولداه ع الغربه
عارفه يا مرتي الراجل في الغربه يشبه إيه؟
عود دره وحداني.. في غيط كمون».
أبيات من «جوابات حراجي القط». صوّر بها عبد الرحمن الأبنودي متنًا إنسانيًا نشأ حول موقع بناء السد العالي، على لسان الأُسطى حراجي القط في رسائله إلى زوجته فاطنة أحمد عبد الغفار، التي تقطن بيتهم الكائن في جبلاية الفار.
الأبنودي، الشاعر النموذج للمثقف ابن دولة يوليو، حفر في هذه المنطقة شعرًا كبيرًا وجماهيريًا في آن، تومض في رأسك «لمبته»، بمجرد مجيء سيرة السد، والملحمة الإنسانية التي نسجت أسئلتها في بنائه بما يشبه الصُخرة، لتحقيق مجد دولة مولعة بالمشاريع القومية الناجحة، غير أنها أصرت على نسبها لرجل واحد هو جمال عبد الناصر.
ظلّت هذه الدولة تتأرجح بين التقييمات، بينما كفة الإيجابيات أثقل. غير أن هذا الثقل راح يقل في ميزان التقييم، حتى جاءت أجيال كسرت التابوهات في كل أشكالها. أجيال عاشت، في سنوات قليلة، أكبر ظرف سياسي في التاريخ المصري الحديث، ما ساعدها على قول ما تريد مهما كان صادمًا.
تغيرت لديها مفاهيم كانت ترسّخت لسنوات وتكالب عليها العفن. بما فيها مفهوم الانتماء الوطني نفسه. لا، لم تكسر فقط التابوهات، بل انتصرت على التلقي العام لهذا الكسر بشكل كبير. ولم لا؟ هؤلاء شباب يعيشون ارتباكة كل المفاهيم الإنسانية العربية بما تحتويه من سياسة أو ثقافة. على أي حال، حتى عبد الناصر بكل ما تركه من ورثة يدفعون عن اسمه أي محاولة للنقد، لم يسلم. هكذا، بدأت في الانتشار فكرة أن دولة يوليو كانت بداية ما نعيشه. وهي فكرة تستحق التأمل كثيرًا.
«جوابات حرجي القط»، وبعض الأفكار في السطور السابقة، تداعت إلى ذهني في أثناء قراءة بعض حكايات الكاتب المصري عمر طاهر في كتابه الأحدث «صنايعية مصر ـ دار الكرمة للنشر».
أشخاص شكلوا الوجدان المصري الحديث، عبر كونهم نواة عدد من المشاريع التي بدأ بعضها كبيرًا برغبة الدولة، وبدأ بعضها صغيرًا ثم كبر وأمّمته الدولة. المهم أن ما يربط بين هؤلاء جميعًا هو أن أغلبهم أتى من منطقة «الصناعة»، عندما كان هناك في مصر «صناعة». لذا، أسماهم عمر: «صنايعية مصر».
صدقي سليمان.. صنايعي السد العالي:
الرجل الذي طلب من عبد الناصر صلاحيات رئيس الجمهورية، وأخذها معه إلى موقع بناء السد العالي، وأدار العمل بشكل استثنائي داخل منظومة الإدارة المصرية عمومًا، حيث لا وقت للبيروقراطية والروتين والتوقيعات. المنطق يقول تذليل كل صعب أمام العمال. «كانت الدولة تواجه مشكلة كبيرة: بدأ العمل بهمة ثم أصابه الفتور، ومعدلات الإنجاز تشير إلى خطر قادم»، كان لا بد من تحويل مجرى النيل قبل موعد الفيضان الذي من الممكن أن يجرف معه كل التعب وخسارة اقتصادية مرعبة. وفي خطاب ناصر الأخير أمام أعضاء المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي، وبعد أن كانت النكسة هددت الحلم، قطع حديثه وقال للحضور: «تلقيت اليوم رسالة من السيد وزير السد العالي يقول فيها: باسم بناة السد العالي الذين تعهدوا بإنشائه في العيد الثامن عشر للثورة تقديرا لفضلها في تنفيذه، أبلغ سيادتكم أن العمل في السد العالي يكون قد انتهى على أكمل وجه». مات ناصر قبل عمل السد رسميًا، وفي الافتتاح الرسمي، طلب السادات رفع اسم صدقي سليمان من دعوات الحضور.
باقي زكي يوسف.. هادم خط بارليف:
ضابط المركبات الذي نهره قائده عندما حاول اقتراح فكرة لهدم خط بارليف. عندما قالها انبهروا وإن لم يقتنعوا بسهولة. كان يوسف أحد المنتدبين للعمل في بناء السد العالي، واحد المسؤولين عن إذابة الجبال التي تحيط بمكان المشروع. قال: «طرمبات ماصة على زوارق خفيفة تسحب الميه وتضخها بقوة اندفاع عالية، الميه هتحرك الرملة وهاتجرها على القناة وتتفتح الثغرة». الجميع كانوا يفكرون في المفرقعات والألغام وسلاح الطيران، وهذا يحدثهم عن خرطوم مياه. قطع صمت دهشتهم قائلا: «إحنا عملنا كده في السد العالي». بعد أيام قال قائد الفرقة للضابط: «لقد حصلت اليوم على إمضاء هو من أشرف الإمضاءات العسكرية بموافقة ناصر على فكرتك». لكن ناصر مات أيضًا قبل العبور، وحاز السادات لقب «بطل الحرب والسلام»، ثم اكتفى مبارك بـ»قائد الطلعة الجوية الأولى».
ناعومي شبيب.. صنايعي برج القاهرة:
القصة الشهيرة تقول إن عبد الناصر أخذ الستة ملايين جنيه من أميركا كعربون محبة فعدّها رشوة، وقرر بناء برج على نيل القاهرة، كإصبع يشير به للأميركان.
المنطقة التي تم اختيارها هي أرض جزيرة الزمالك، من باب أن يخرج السفير الأميركاني من نافذة مكتبه فيراه أمامه، لكن الأرض عند حافة الجزيرة يصعب أن تتحمل مبنى كهذا.
ذهب نظر الضابط المكلف بالإشراف على الأمر، واسمه يسري الجزار، إلى كان ناعوم شبيب، عبقري البناء وحديث مصر، ومشيد أول ناطحة سحاب في مصر.
تفاصيل ممتعة يحكيها عمر طاهر عن كيفية وصول شبيب إلى طريقة مثالية لبناء البرج في هذه المنطقة، غير أنك ستتوقف عند فلسفة الرجل، التي لخصها يوم وقف يحاضر طلاب كلية الهندسة، قال: «التشييد هو عمل الإنسان لصالح أخيه الإنسان».
ذلك المرور السريع على بعض من «صنايعية مصر»، لا يوفّي الكتاب حقه على الإطلاق، لكنه ربما يشير إلى الفكرة وطريقة صياغتها. صور قلمية رسمتهم بكتابة شديدة التشويق. اشتغل عليهم الكاتب بحثًا صحافيًا حقيقيًا وليس عبر اللف على صفحات الإنترنت. قابل بعض ورثتهم، وتعامل مع مراجع وكتب وجرائد قديمة. فخرج الكتاب شديد الإمتاع فعلًا وتأريخيًا بامتياز. وأنا أنتمي لبعض يرى أن التاريخ الحقيقي يكتبه صحفيون.