رواية عبده خال (ترمي بشرر)..

تنوعات التأويل وجماليات المكشوف
القسم الخامس
ناجح المعموري

وركزت العتبة الأولى على الدور الذي قام به طارق فاضل في القصر وتأديب من يقترح عليه السيد تأديبه . وفعلاً أعلن الاستهلال عن رغبة طارق بترك العمل وموافقة السيد على عزله وفي تلك اللحظة العصيبة تمنى طارق على ربه أن يغيثه ويخلصه مما هو فيه. إنها لحظة التوسل بالله وإعلان احتجاجه على السيد رمزياً: /بصقت أسفل قامتي في غفلة منه /ص13 . وهذا ما استطاع عليه طارق . هذه البصقة تعبير عن احتقار طارق للأنا /الذات للكائن الذي كأنه هو ولم تكن بصقته تعبيراً عن احتقار للسيد وهذا ما يفهم منه. إنها تحقير لنفسه وتعبير رمزي عن امتهان كرامته وارتهانها لخدمة السيد. اعتقد طارق بأن بصقته أهانة للسيد وهي اختزال وتحقير للأنا غير القادرة على فعل أكثر تصريحاً ووضوحاً .
بصقة على الأرض التي يقف عليها بوصفها المكان الدال عليه. إنها إعلان عن ضعفه، لأنه لم يجد وسيلة أقوى تعبيراً عن موقفه ضد السيد، انه دائماً ما يذهب إلى الحدود الأضعف في التصريح الرمزي وهو المكسو بالذل والعبودية، حتى انعكس سلوكه داخل القصر إلى خارجه وتبدّى واضحاً مع عمته خيرية « في البدء كان وجود عمتي يؤرقني، هذا الأرق أنهيته، بتحويل غرفتها إلى زنزانة، وهي السجينة بغير سجان/ ص199
للمقدس مكانة عالية وجليلة جداً في كل مكان وتحافظ عليه من خلال المراسيم والطقوس الخاصة به يومياً وعلى فترات معروفة مثل الصلاة على سبيل المثال وفي مدينة مثل الجدة تكون الطقوس الدينية ظاهرة متمركزة جداً ويفترض أن يكون للآذان أو الصلاة حرفة، تضع الإنسان أمام نفسه وعليه أن يخاف الله. وفي استهلال الرواية حضور للمقدس لكنه ثانوي ولم يكن للآذان تأثير رادع مما يعني بأن العلاقة مع المقدس شكلية حتى إذا تظاهر الإنسان- هذا ما كشفت عنه الرواية- ملبياً لما هو مطلوب منه/ فما أن شرعت بالتعذيب حتى ارتفع آذان صلاة العشاء صوتاً ندياً يصلنا مخترقاً دواخلنا، ناظراً الطبقة السفلى منها، ويرتد، تعاود سكب مفرداته بتنغيم آسر…… ……. نستغيث فلا نغاث، فنعجن بكاءاً مكتوماً في أعماقنا لننهي لحظات العذاب المتبادلة/ ص10 لم يلعب المقدس دوراً المقتنع به من قبل الإنسان الذي استغاث طويلاً ولم يجد استجابة. والأخطر انحرفت علاقة الإنسان بالمقدس عن وظيفتها الروحية الاتصالية إلى إغفال وعدم الإبقاء على قداسة الممارسات المرتبطة بالدين مباشرة، والرواية مزدحمة بمثل هذه الخروقات وعدم الانشغال بها ويبدو بأن الروائي عبده خال قصدي في التركيز على ذلك، للكشف عن زيف ادعاءات الإنسان وتطرفه مع المقدس. له علاقة علنية وأخرى غير معلنة والثانية هي الحقيقية في اللحظة التي ابتدأ منها التعذيب، ارتفع آذان صلاة العشاء وحتماً كان سيد القصر هو الأكثر وعياً بالضوابط الدينية، ويعرف كيف يحافظ عليها عبر الالتفاف عليها وتزويرها .
ما يعبر عن ذاك المشهد الديني بوضوح هو ما قالته الرواية في استهلالها/ آذان العشاء، طال هذه الليلة شعرت أن المؤذن بقي يردد آذانه لمنتصف الليل من غير أن يستجيب المصلون لندائه تتموج مفردات الآذان داخل القلب في محاولة لإنارة عتمة قديمة فيِحبس هناك. تغلق المعاصي أبوابها عليه، وتتسع بقعة الظلام، ومع عتمة الروح تزداد عملية التعذيب قسوة….. مضى الوقت وما زال الآذان متواصلاً والليل يلملم عباءته لا ليسترنا بل ليكشف سوأتنا معاً/ص11
المقدس كما هو في هذا النص غير قادر تماماً على إنقاذ الإنسان عن مجاله المادي وتطويعه باتجاه العقائد والطقوس. وظل عالم الأرض المادي مهيمناً وطاغياً وحضور المقدس ثانوي كما قلنا.
كل شيء في القصر خاضع للسيد، الرجال والنساء، وهو مالكهم الحقيقي، يتصرف بالجنسانية على وفق ما يشاء، لكن الجميع لم ينسوا المقدس حتى في جلسات القصف والسكر. وتبدو هذه الأستذكارات والممارسات تمثيلية ومثيرة للنكتة [ نهض « جلال ألمعيني» مغالباً سكرته في نصف استقامة، ودار حول نفسه حتى ثبت في اتجاه الشرق، ورفع صوته الرخيم مؤذناً، ولم يكمل آذانه إلا وقد تحرك في كل الجهات، ومع انتهاء الآذان كان وجهه متجهاً نحو الشمال/ص190
المقدس مظهر خارجي له وظائف غير التي عرف بها، انه إطار تزييني للشخوص المتسيرة في القصر والسلطة، يتعاطى الفقراء مع المقدس لأنه يوفر لهم قناعة وحلماً بآخرة تعوضهم عن خسران حياتهم، وأعتقد بأن هذا المقطع من الرواية خطير للغاية بما ينطوي عليه من افضاءات جعلت من قصر السيد ما يشبه المعبد الوثني. المخنثون فيه والعلاقات المثلية سائدة، السكر والعربدة وكأنهم في معبد الآلهة عشتار أو باخوس/ أو ديونيسيس، وما يحصل باستمرار في القصر لا يختلف تماماً عن الفعاليات التي يمارسها رواد الوثنيات الجديدة في الوطن العربي والعالم .
التعذيب وقطع الذكورات يومئ لطقوس الآله الشاب آتيس/ حيث كانت تتم عمليات الجلد بالأسواط والسكاكين العظيمة. ويقوم أكثر الكهنة تطرفاً باخصاء ذكورته بالسكين. وهم بذلك يستعيدون مكانة الخصيان في معبد الآلهة عشتار في بابل وأدونيس وعشتاروت .
ما حصل في قصر السيد استيقاظ للكامن في اللاوعي « الخصاء الذاتي لأتيس» ووجود هذا العدد من الفتيات المانحات أجسادهن، هو تمثيل للبغاء المقدس الذي عرفته أعداد من أقطار الشرق والجزيرة العربية قبل الإسلام. وفي معابد الالوهة المؤنثة تعاد استدعاءات القوة المولدة للطبيعة [ … فتنقل الجذم بحذر زائد بين تلك الأجساد المترامية لجمع ما تناثر من زجاجات وكؤوس، وأنسل من بقي يعالج نعاساً ثقيلاً إلى غرف النوم، تصاحبهم رفيقاتهم لمعالجة شبق تمدد في أوصالهم طوال الليل /ص191 خضوع النساء، تعبير عن سيادة البطريركية على وجود ما موجود في القصر والحياة كلها أنه خضوع غير مشروط تنفتح ظاهرة الخصاء على دلالات غير التي أشرنا لها كشكل من أشكال اللاوعي وانفتاحه على ممارسات وطقوس تومئ لعقائد وطقوس ذات صلة بنظام الالوهة الشابة المذكرة. وأعتقد بأن أكثر الدلالات قرباً لنا، هو إن الخصاء تعبير عن تعطيل كامل للكائن مقطوع الذكورة، لأنها أقسى عقوبة تقع على إنسان كانت وظيفته المضاجعة فقط [ لم يعد بيّ شيء مزهر، كل ما أحمله أداة عمل فترت من كثرة الترني والاستخدام، وجسد ملّ من الالتصاق الدنس/ ص152. فكيف ستكون الحال بعد قطع الذكورة؟ وهناك دلالة أخرى على شيوع هذه العقوبة هو أنها تنطوي على رغبة دفينة في لاوعي السيد بوجود ذكورته هو فقط مثلما تنطوي على معنى عقوباتي لأن تلك الذكورات المجزوزة تسعده ووضع فكرة الانتقام منها ضمن خططه. وهناك أساطير شرقية عن الخصاء وأكثرها حضوراً حكاية آنبو وباتي / الأصل المصري الأقدم لعقبة يوسف التوراتي، وأيضاً الأسطورة السورية عن كومبابوس وهما معاً نفذ اخصاءاً لذكورتهما ولهذا الطقس حضور واسع جداً في ديانات وثنية. واهتمام السيد بهذه العقوبة متأت من إحباطه وفشله المتكرر من القيام بوظيفته الفحولية ومثلما هو حاصل مع بدر الذي/ اصطبغ بصبغة التخنث متأخراً /ص273
وتطرأ لأهمية هذا الطقس الغريب والمدهش، حيث انفتح السهرات مع كشوف دفعت كما أعتقد طقوس وثنية، لأن اختراقها للمقدس واضح والتجاوز عليه لا يحتاج إيضاحاً وحصل هذا لأول مرة في المتن الحكائي، على الرغم من وجود اختراقات مستمرة، لكنها ليست بمثل الذي سأضطر لنقل النص على الرغم من طوله :
كل من كان منكباً على وجهه استجاب للآذان بحركة لا إرادية، فيما كان الخدر يأكل تحركاتهم غير المنضبطة، جوزيف عصام احتاج لمن يرشده عن ماذا يفعل بالتحديد، فقد رغب مشاركتهم الصلاة كمجاملة أراد بها إلغاء حواجز الأديان، فاصطف معهم، منشداً ترتيلاً من الإصحاح الثاني، فنهره « خالد عزام « وأوصاه بالصمت والاصطفاف منفرداً إن أراد الصلاة…. اصطف الجميع خلف ألمعيني الذي راح يدور يمنة ويسرة منادياً على النساء للاصطفاف في آخر صف بجوار جوزيف عصام، وقبل أن يكبر تكبيرة الأحرام، جذبه سيد القصر « الذي نهض متثاقلاً « من ترقوته :
– أنا من يؤم بالصلاة يا حمار !
فسقط « ألمعيني» على ظهره، ولم يحاول النهوض بتاتاً، فقد وجد نفسه بالقرب من زجاجات الخمر، فأخذ يعالج إحداها، ويعبّ مما تبقى منها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة