كحول ومِئذنة

أنمار رحمة الله

يدسُّ وجهه بين زحمة الاكتاف، ينتبه إليه الحضور، فيفسحون له المجال للدخول بينهم، يسلم على الجمع (سلام…سلام). يردون عليه السلام وهم يطالعون تفاصيل وجهه. كانت هيئته رثة، وحذاؤه ملطخاً بالطين. يضع ساعده على كتف أحدهم ويقول (أنا هناااا …جئت للتبرع بالدم. لقد سمعت النداااااء في مئذنة الجا…عفواً… الجامع القــَريييييب). يقترب والد الطفلة منه ويسأله بفضول (هل فصيلة دمك هي B سالب؟). يرد عليه بفم خادر وكلمات تتعثر عند خروجها (نعم …نعم أنا الدم الذي.. اي… تبحثون عنه…أنااااا هنااااا في خدمتكم، وخــ… دمة… عفواً… وخدمة المستشفى وخدمة الجميع يا أحباااابي). وبعد انتهائه من أخر كلمة، يسحب أحدهم والد الطفلة ويقول له (هل تعرف من هذا؟ إنه سكير لعين، فاقد لتوازنه ورشده طوال الوقت ودمه مليء بالكحول). لم يجب والد الطفلة، وحين يطالع الحاضرون الصمت واضحاً على وجهه، يسحبه رجل آخر قائلاً(إياك أن تفسح المجال له بالتبرع لطفلتك، دمه نجس وسوف يقتل طفلتك، اصبر فلعل هناك شخصاً أت ليتبرع بالدم بدلاً عن هذا السكران). في تلك اللحظة تتأوه الطفلة، يهرع والدها صوبها، يضع كفه على جبينها ويصرخ (الطبيب…أين الطبيب). يردُّ أكثر من صوت من بين الواقفين (الطبيب في غرفته…الطبيب ينتظر…نعم إنه ينتظر مجيء أي شخص يحمل فصيلة الدم ذاتها). ينظر السكران بعينين ناعستين ثم يعتدل في وقفته ويسأل (أين الطفلة …هذا شريااااني لها.. خذوا من دمي حتى لو جفَّ كله). يمسك أحدهم بكتف الرجل السكران ويهمس في أذنه (لا حاجة ..لا حاجة استرح انت أو غادر المكان مصحوباً بالسلامة). لم يقتنع السكران بجواب الأخير، فيتشجع ويتقدم صوب مكان والد الطفلة الذي ينظر إلى ابنته بيأس، ويهتف السكران بأعلى صوته (أنت وااااالد الطفلة ؟ أنااااااا هنا للتبرع بدمي). يقف والد الطفلة ثم يطلب من أحدهم احضار الطبيب، لأنه يقرر أخذ الدم من الرجل السكير، يحيط البعض بوالد الطفلة ويخاطبه احدهم :
(أنت مجنون؟ لو كنت مكانك لرضيت بالموت لطفلتي، على ان يشرب جسمُها دمَ هذا السكير).
يتسلم الحديث رجل آخر كان جالساً فيقف متحمساً ويقول :
(لنطرد هذا السكير الآن.. والد الطفلة يتصرف بعاطفته لا بعقله).
ينظر والد الطفلة إلى كلام الاخير مخاطباً:
(نحن لن نأخذ منه سوى الدم.. كل ما تحتاجه الفتاة الدم والدم نجس، إن كان حامله سكيراً أو رجل دين.. هل سأناسبه أنا أو أخطب منه أو أصادقه ؟. سيتبرع بالدم ويمضي ولن أراه ولن يراني مجدداً).
يضحك الرجال بعد أن تبادلوا النظرات ،ويعودون إلى الكلام مخاطبين والد الطفلة :
(لن تراه ولكن الجميع سيعلم) يقول أحدهم:
(ماذا ستقول لأمها ولو علمت النساء وصديقاتها في المدرسة) يقول آخر:
(أنا أقترح الصبر وطرد هذا السكير الآن) يقول شخص في الطرف الأخر من السرير
في ذلك الوقت كان الرجل السكران يقضم خياراً بكفه، ثم يخرج القليل من الفستق المالح، ويضحك ناظراً إلى شارب أحد الواقفين وينبس(شاااااربك يعجبني). ويتلو الجملة بضحكة مخنوقة. ينتفض صاحب الشارب ويمسك بالسكران من ياقته، ثم يدفعه إلى باب صالة الطوارئ. ينظر الموظفون إلى الحالة وبعض الناس يعترضون على تصرفه فيهتف صاحب الشارب (سكران.. سكران)، فتصدر من بعض الواقفين هتافات استهجان لوجوده، موظف يصيح (ارمه في الشارع قرب أي مكب للنفاية)، وامرأة تتغشى قائلة بصوت مبحوح (عليه اللعنة.. من الذي سمح له بالدخول؟!). وآخرون يضحكون، وآخرون يقترحون تقديم شكوى، لأن وجود هذا السكير في هذا المكان يعد خرقاً للقانون الصحي وحماية المرضى. في النهاية يجد الرجل الثمل نفسه مرمياً على أرض صلبة خارج ردهة الطوارئ. السقوط على الأرض يعيد شيئاً من التركيز لعينيه، لكنه مازال غير قادر على تثبيت قدميه. ينهض ببطء ثم ينكث ملابسه، ويسير صوب باب المستشفى الخارجي.
صوت المئذنة القريبة يهتف بلا انقطاع:
(على من يجد في نفسه القوة للتبرع بالدم التوجه إلى ردهة الطوارئ في المستشفى وله الأجر والثواب… فصيلة الدم المطلوبة B سالب ..إخوان على من يجد في نفسه …).
الرجل السكران يزداد وعياً ثم استغراباً ،من وجوده كل هذه المدة في المستشفى
والد الطفلة يكرر استدعاء الطبيب والرجال حوله يصبرونه…
الطفلة نبضُها يخفت..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة