د. فخري قدوري
الدكتور فخري قدوري من أوائل البعثيين في العراق يكشف في كتاب ” هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث” معلومات عن صدام حسين الذي جمعته به علاقة عمل فرضت ملاقاته يومياً لمدة ثماني سنوات، ويقدم صورة واضحة لشخصية متواضعة في البداية، ومنتهية بتسلط ونكبات متتالية، حسب تعبير المؤلف.
وفي الكتاب أوصاف دقيقة لأحمد حسن البكر وصدام حسين وجوانب من عاداتهما الشخصية لم يطلع عليها غير المقربين منهما.ويصف المؤلف كيفية انتمائه إلى حزب البعث وسيرته الحزبية وتجاربه مع رفاقه في الحزب “بعد أن أصبح الحزب في نهاية الأمر محكوماً من قبل شخص واحد وأصبحت تنظيماته تحت مظلة الإرهاب تنفذ رغبات الحاكم المستبد”.
“الصباح الجديد” تنشر فصولاً من هذا الكتاب نظراً لدقة المعلومات التي سردها الدكتور فخري قدوري حول مرحلة الاستبداد والتفرد وطغيان صدام حسين.
الحلقة 7
مقدمة
ما يؤسف له ان تكون مبارحة شفيق الكمالي الشاعر الاديب والرسام المبدع الدنيا قبل تدوين مذكراته فقد توفي في 15 كانون الاول/ديسمبر1984 وسط ظروف غامضة وبذلك رحلت معه كل الاحداث التي عايشها وكان الشاهد عليها في السياسة كما في النضال طيلة نحو اربعة عقود من الزمن.
رافق شفيق حزب البعث منذ بدائيات نشأته وتعرض للمطاردة والسجن والتعذيب مرات ومرات وشارك عضواً في القيادتين القومية والقطرية واسهم عضواً في مجلس قيادة الثورة وتولى مناصب وزارية ودبلوماسية منذ عام 1968 وتوج اعماله الشعرية بوضع كلمات النشيد الوطني العراقي ثم يوجد نفسه اخيراً ملاحقاً ضمن قائمة المنبوذين والمطاردين من قبل نظام الحكم شأنه شأن غيره من الحزبيين القدامى.
شفيق الكمالي- عديلي وابن عمي- ولد في مدينة (البو كمال) السورية مع الحدود العراقية بعد ان شطرت معاهدة (سايكس بيكو) إبان الحرب العالمية الاولى عائلة قدوري الساكنة على شريط نهر الفرات من (عانة) (دير الزور) الى شطرين واحد في العراق والاخر في سوريا.
ادرك شفيق قبل رحيله بسنوات ان الحكم بات يناصبه العداء لآرائه وانتقاداته المريرة لكن لم يكن من يد سوى الادغان لانحسار دوره في الحزب والدولة خشية مما هو اعظم.
في اخر لقاء جمعني به في داره ببغداد يوم 29 حزيران/يونيو 1982 تحدث عن سياسات الحكم الطوباوية بقلب مليء بالاسى وعينين تراقبان اياماً سوداء اتية قال لي: يافخري لقد نفذ الصبر ولم يعد لي الا تجنب ما يحاك في الظلام ولم يعد يهم حتى العمل بالبقالة في عمان بضمير مرتاح وفي ختام حديثه الح علي بعدم العودة الى بغداد دفعا لما قد يدير ضدي انا الاخر من مكائد.
بعد نحو عام من ذلك اللقاء اعلمتني زوجته هاتفياً من بغداد تعرضه ونجله يعرب لموقف سيء دون ان تفصح عن حقيقة الامر لخشيتها من العيون التي تراقب الهاتف لكني وقفت على التفاصيل عندما حانت فرصة أفضل.
داخل المعتقل
اوائل شهر تموز/يوليو 1983 القت اجهزة الامن العراقية القبض اولاً على نجله الاكبر (يعرب) الطالب في كلية العلوم بجامعة بغداد امام منزله واقتادوه الى سيارة امن كانت تنتظر ولم يعلم بالأمر سوى الجيران الذين سارعوا لإعلام ذويه بما حل.
وعلم ابنه اثناء التحقيق والتعذيب ان السبب يكمن في شريط مسجل له مع بعض من زملائه خلال تبادله دعابات ساخرة بالسلطة وبعض رموزها.
قبع الابن في اقبية اجهزة الامن اسابيع دون ان يتمكن والده فعل شيء فقد كان هو الاخر مغصوباً عليه من قبل صدام ومراقباً من قبل اجهزة الامن والمخابرات ولم يجرؤ حتى الاصدقاء والاقارب على التدخل لان ذلك يعني تجاوز الخطوط الحمراء بمفهوم النظام في ذلك الزمان.
وبعد مضي نحو شهر اضطر الابن تحت تأثير التعذيب للاعتراف ان كل ماردده في الشريط المسجل كان مقتبساً من والده ونحو الساعة الثالثة بعد ظهور اول ايام شهر آب/اغسطس 1983 توجهت اجهزة المخابرات الى دار شفيق بهدف القاء القبض عليه.
في تلك الساعة كان في المنزل زوجته وابنه تغلب وابنته حنان وطفلتها البكر زبيدة التي لم تتجاوز في حينه العام الواحد يتجاذبون اطراف الحديث مع اقرباء جاؤوا للزيارة.
دخل افراد المخابرات الدار متسائلين عن شفيق فأجابتهم الزوجة انه في مدينة الموصل في مهمة ادبية فلم يصدقوا ليبدأوا رحلة تفتيش طالت كل غرفة وزاوية من ارجاء المنزل وهم في حال من التهكم على استفسار الزوجة ان كان لديهم اذن خطي بما يصنعون اذ كيف يصح الاستفسار عن مثل هذا الامر وبرزان- الاخ غير الشقيق لصدام- هو نفسه رئيس المخابرات.
وحين لم يجدوه اقتادوا زوجته وجميع من كان في المنزل آنذاك الى احدى السيارات الاربع المنتظرة امام الدار. ولاحظت الزوجة ان شخصاً- يبدو انه رئيس المجموعة- ادار ظهره عند توجه المحتجزات الى السيارات متجنباً التعرف على وجهه وقيل لها ولمن معها انهن يتلقين مكرمة لعدم ربط عيونهن بعصائب سوداء وهو الاجراء المتبع مع كل من يدخل مبنى المخابرات وقد تبين من مجريات الاحداث ان العائلة ومن كان معها صدفة في تلك الساعة اعتبروا رهائن ريثما يتم القبض على شفيق.
في ذلك الوقت كان شفيق ما يزال في مدينة الموصل ويبدو ان المخابرات خشيت افلاته من قبضتها فرددت اشاعة حول نيته الهرب الى سوريا.
جيء بشفيق الى المخابرات في بغداد عند الساعة الحادية عشر والنصف مساء وفي منتصف الليل اخلت المخابرات سبيل الزوجة والمحتجزات الاخريات وتركتهن امام البناية في حيرة حتى انقذت حالتهن سيارات اجرة (تاكسي) حيث توجه الجميع الى دار اللطيف-شقيق شفيق ليقضوا ما تبقى من الليل هناك.
وفي الصباح توجهت الزوجة مع ابنها تغلب- البالغ في حينه 17 عاماً- الى دار اخي هاشم في بغداد للإقامة المؤقتة بعد ان منعتها المخابرات من العودة الى منزلها نتيجة قرار بحجزه وبقية املاكه الاخرى.
مضى على اعتقال شفيق نحو عشرة اسابيع دون توجيه تهمة جادة فسأم من الحالة التي لم تتضح نهاية لها ما دفعه الى التهديد بالاضطراب عن تناول الطعام مطالباً اما تقديمه للمحاكمة ان كانت هناك تهمة او اخلاء سبيله.
ومن المفارقات التي يصعب على الانسان استيعابها انه فيما كان النشيد الوطني العراقي (وطن مد على الافق جناحا..) يذاع صباح مساء وتردده ملايين الحناجر كل يوم كان مؤلفه (شفيق الكمالي) يئن من العذاب في المخابرات العراقية.
بعد ثلاثة شهور من العسف والاحتجاز اطلق سراحه وتوجه الى دار شقيقه الكبير عبد اللطيف ليقص عليه رحلته في دهاليس المخابرات ويفرغ ما في قلبه من حسرات.
بعدها مباشرة توجه شفيق للسكن مع زوجته في دار اخي هشام ومعهما الابن تغلب وعقب مضي نحو اربعة اسابيع من اطلاق سراحه اطلق سراح الابن الاكبر يعرب بعد ان امضى في اقبية الاجهزة الامنية نحو خمسة شهور احتجازاً وتعذيباً.
مما رواه شفيق بعد الاخلاء ان التحقيق معه كان يتوصل بين يوم واخر بأسلوب لم يكن يقتضي كل هذا العذاب والمعاناة الا انه كان مقتنعاً بوجود اسباب من الغيرة والحقد ومجرد الاذلال تقف وراء كل الذي جرى له.
وذكر ان عاهل الاردن المرحوم حسين تدخل شخصياً لإطلاق سراحه فيما لم يجرؤ احد من اصدقائه ومحبيه في الداخل على التدخل لا لعدم اكتراث بل خشية المسائلة والعقاب.
وفي لحظة ما استلقى شفيق على كنبه ليغمض عينيه ويستعرض فيلماً شريطاً طويلاً من الاحداث والعذاب منذ تعرفه على صدام حسين قاده الى ايام اللجوء الى القاهرة وتسجيله طالباً في الجامعة حيث رشح في مرحلة لاحقة لرئاسة الاتحاد الوطني للطلبة العراقيين هناك فانتخبه الطلاب بالأكثرية فيما حصل صدام على صوتين اثنين فقط!
اما منزل شفيق فقد خضع لهيمنة رجال الامن طيلة اربع اشهر رفع بعدها الحجز عن المنزل فقط وكانت المفاجأة لحظة دخول العائلة المنزل اذ وجدته في حال مزرية من العبث والخراب وقد سرق ما كان فيه من ذهب ومال ولم تنج الوان فنية نادرة وحاجيات ثمينة من اياديهم ولم تحاول العائلة تقديم شكوى لاستعادة المسروقات لقناعة الجميع ان الامر لا يعني في النتيجة الا تبرئة الجاني وادانة المجني عليه.
كان اشد ما الم شفيق مصير مكتبته العامرة اذ وجد الكتب مبعثرة على ضفاف دجلة حيث تقع داره والريح تعصف بصفحاتها الممزقة وقد ابتلع النهر الكثير منها!
رفع ما تبقى منها مبثوثاً بين الاحجار وبدأ بتجفيفها والدموع تغالبه فتغلبه ! ثم حملها الى داخل المنزل كما يحمل الوليد ليضع الصالح منها على الرفوف بمساعدة صديقه الاديب عبد الجبار العمر الذي وافاه الاجل فيما بعد اي فكر متخلف ونزعة حاقدة يقدمهما هذا المشهد؟!
اضطر شفيق بعد ذلك الى المكوث في المنزل لا يبارحه بعد ان منع من ممارسة نشاطه الاعلامي وشطبت عضويته في المجلس الوطني لغيابه ثلاثة شهور بدون عذر مشروع! كما ورد حرفيا على قرار الشطب وهي الفترة التي امضاها في المخابرات مكرها.
وحتى تكتمل السبحة سحبت منه سيارته التي كان منه سيارته التي كان تلقاها هدية من صدام في وقت سابق فبات يمضي وقته كئيباً منزوياً في منزله.