فن الفائض

كريستوف شميدت
رئيس المجلس الألماني للخبراء الاقتصاديين
ربما لا يكون فائض الحساب الجاري المرتفع على نحو مستمر في ألمانيا حاضرا على الأجندة الرسمية لقمة مجموعة العشرين التي تستضيفها مدينة هامبورج هذا الأسبوع، ولكنه من المحتم أن يستفز حالة من التوتر بين القادة المجتمعين. فقد سجل ذلك الفائض، الذي كان لمدة طويلة سببا للخلاف مع العديد من شركاء ألمانيا التجاريين، ارتفاعا جديدا بلغ 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في العام المنصرم، وكان الفائض مع الولايات المتحدة يمثل القسم الأعظم من الفائض الكلي.
من المؤكد أن اقتصاد ألمانيا من الممكن أن يستفيد من التغيرات في السياسة العامة والتي من شأنها أيضا أن تقلل من فائض الحساب الجاري. ولكن مثل هذه التعديلات لا تصبح منطقية إلا إذا استرشدت بالتفكير الرصين ــ والقادة الذين يقبلون طبيعة التجارة الدولية المفيدة تبادليا، ويسمحون بحدوث التعديل الاقتصادي بمرور الوقت، ويرفضون وهما مفاده أن الاقتصاد أشبه بشركة كبيرة.
إن التجارة الدولية ليست مباراة محصلتها صِفر. فالعجز في الحساب الجاري ليس مؤشرا مباشرا لصفقة سيئة، والفائض ليس بالضرورة سببا للاحتفال. بل إن العجز والفائض يرجعان في حقيقة الأمر إلى عدد لا يحصى من الصفقات الخاصة، والتي تتوقع الأطراف المعنية جني الفوائد منها.
ومع ذلك، تواصل إدارة الرئيس دونالد ترامب، والمفوضية الأوروبية (بدرجة أقل عدائية) دفع السرد القائل بأن الفائض المرتفع لدى ألمانيا لابد أن يشير إلى اختلال في التوازن الاقتصادي ناجم عن انخفاض الطلب الكلي نسبة إلى العرض. والواقع أن ترامب ــ في استعراض لعجزه عن إدراك المفاهيم الاقتصادية التي تنطوي عليها محاولات قياس أرصدة الحساب الجاري ــ ذهب إلى حد القول بأن «الألمان أشرار، أشرار للغاية، بسبب ملايين السيارات التي يبيعونها إلى الولايات المتحدة».
الحقيقة هي أن حدوث اختلال في توازن الاقتصاد الكلي يتطلب انحراف الطلب الكلي بشكل كبير عن العرض الكلي، عند مستوى سعر معين. وينعكس العرض الزائد إما في طاقة إنتاجية غير مستغلة بشدة أو في انخفاضات هائلة في الأسعار وتوقعات الأسعار. ولا يمكننا أن نتبين أي من هذا في ألمانيا حاليا.
بل على العكس من ذلك، تستعمل القدرة الإنتاجية الألمانية بنحو مفرط. ومستويات تشغيل العمالة هناك مرتفعة، والبطالة في انخفاض، والأسعار في ارتفاع بعض الشيء، كما كانت معدلات التضخم الأساسية إيجابية لسنوات. وعلى هذا فإن أي تدخل بهدف تحفيز الطلب ــ العلاج الواضح وفقا لسرد ترامب ــ لن يكون منطقيا على الإطلاق.
ولا يخلو الأمر من مشكلات أخرى تعيب هذا السرد التبسيطي الذي يدفع به شركاء ألمانيا في الغرب. فكثيرا ما يُفَسَّر فائض الحساب الجاري على أنه علامة على عملة مخفضة القيمة عمدا، أو حواجز تجارية، أو إغراق سلع التصدير. ولكن الاقتصاد الألماني يتميز بحواجز تجارية منخفضة نسبيا؛ هذا فضلا عن استقلال عملية تحديد الأجور عن السياسة إلى حد كبير، ووضع السياسة النقدية من قِبَل البنك المركزي الأوروبي، وليس الحكومة الألمانية.
وبدلا من هذه العوامل الثابتة، يبدو أن قوى مؤقتة ربما تتحمل قدرا كبيرا من اللوم عن فائض الحساب الجاري المرتفع في ألمانيا. الأمر الأكثر أهمية هنا هو أن السياسة النقدية التوسعية التي ينتهجها البنك المركزي الأوروبي، على الرغم من أهميتها البالغة في منع أزمة اليورو، كانت سببا في دفع قيمة اليورو إلى الانخفاض؛ وكان التحسن المقابل في القدرة التنافسية للأسعار منذ منتصف عام 2014 مسؤولا عن نقطة مئوية واحدة في الأقل من فائض الحساب الجاري في ألمانيا في عام 2016. وكان الانخفاض الدرامي لأسعار النفط في الفترة من عام 2014 إلى عام 2016 مرتبطا بزيادة قدرها نقطتين مئويتين أخريين، في ظل تحولات ديموغرافية اسهمت بنقطتين أخريين.
ويقودنا فحص صافي الاقتراض والإقراض من جانب القطاعات الاقتصادية في ألمانيا إلى تفسير آخر للفائض الخارجي الألماني المرتفع. إذ يسجل قطاع الشركات الألمانية نسب رأسمال متزايدة، وهو ما يرجع في الأساس إلى عوامل ضريبية فضلا عن إنشاء مخففات للمخاطر في الاستجابة للأزمة المالية العالمية في عام 2008 وأزمة منطقة اليورو التي اندلعت بعد عامين. وليس من المستغرب أن يأتي هذا الارتفاع في مدخرات الشركات مصحوبا بزيادة الاستثمار في الخارج.
كما تحسنت الموارد المالية العامة في ألمانيا في السنوات الأخيرة، وخضعت الأسر لقدر كبير من تقليص الديون للتعامل مع كميات ضخمة من الديون الناجمة عن الفقاعة العقارية في أواخر تسعينيات القرن العشرين. وأغلب هذه التأثيرات ــ ومساهمتها في فائض الحساب الجاري ــ من المحتم أن تتلاشى بمرور الوقت.
تتلخص الحقيقة الاقتصادية الأخيرة التي يتعين على ترامب بنحو خاص أن يدركها في استحالة إدارة الاقتصادات الوطنية بطريقة إدارة الشركات الكبرى نفسها. والواقع أن المستوى المرتفع من التجريد في تحليل الاقتصاد الكلي كثيرا ما يحجب حقيقة مفادها أن النتائج الكلية ترجع غالبا إلى عدد هائل من القرارات التقديرية التي تتخذها قوى مستقلة. ولا يستطيع صناع السياسات أن يتلاعبوا بمثل هذه النتائج كما يحلو لهم. وكل ما يمكنهم القيام به هو تشكيل البيئة التي يعمل فيها متخذو القرار فرادى، في محاولة لتوجيه مجموع الاقتصاد الكلي، مع الحد من الآثار الجانبية غير المقصودة في الوقت نفسه.
في نهاية المطاف، ينبغي لنا أن نفهم فائض الحساب الجاري بوصفه عَرَضا لتطورات أساسية، وليس بوصفه هدفا للسياسة الاقتصادية. وفي حالة ألمانيا، لا يجب أن تكون معالجة ميزان الحساب الجاري هدفا في حد ذاتها، بل لزيادة مستوى العائد على الاستثمار داخل ألمانيا.
وقد تشمل مثل هذه التدابير، على سبيل المثال، السعي إلى انتقال الطاقة مع الاسترشاد بالمبادئ الاقتصادية، وإصلاحات ضريبة الشركات التي تدعم حيادية التمويل، وإلغاء القواعد التنظيمية التي تقيد قطاع الخدمات. ومن الممكن أن تلعب زيادة الاستثمارات العامة دورا إيجابيا أيضا، وإن كان ذلك لابد أن يكون في المقام الأول على حساب الاستهلاك العام.
ومن شأن حزمة السياسات هذه أن تعمل على تعزيز النمو المحتمل في ألمانيا، في حين تساعد أيضا في خفض فائض الحساب الجاري. إنها الصفقة التي ربما يسارع حتى ترامب إلى دعمها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة