هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 10
الفصل الرابع
التدريب على المشاريع الكبرى في المملكة المتحدة
عبدالكريم قاسم ينهي عقد مؤسسة دوكسيادس
تصليح دار سكن الزعيم عبد الكريم قاسم
بعد أشهر من ثورة تموز 1958 واستقرار الزعيم وحكومته في الحكم ، وعندما كنت منشغلا بأعمالي الهندسية في مصلحة المصايف والسياحة ، طلب المدير العام للمصايف والسياحة رشيد مطلك مني وأخي قحطان ، المهندس المعماري المعروف ، أن نرافقه في زيارة الى بيت الزعيم عبد الكريم قاسم الواقع في منطقة ( بستان الخس ) البتاويين من بغداد ، للتعرف على واقع البيت ووضع التصاميم لإصلاحه وتحديثه ليكون سكن خاص مريح للزعيم . صالح المطلك كان صاحب مطعم شريف وحداد الواقع في مقدمة جسر (الملك فيصل الثاني) من جانب الرصافة.
البيت يقع على ارض سكنية بمساحة حوالي 600 متر، وهو من بيوت أملاك اليهود “المجمدة” . بناء الدار يقع على بعد 4 امتار من السياج الأمامي ومحاط بمساحة غير مشيدة بعرض مماثل يتخللها أشجار مرتفعة وقريبة من السياج الخارجي ، والحديقة الخلفية مساحتها حوالي 200 م2 يحيط بها أشجار مرتفعة قريبة من السياج الخارجي ووسطها ساحة مفتوحة استعملت ساحة يقطنها كلاب اربعة شرسة من النوع المخصص للحراسة.
أما الدار فهي مشيدة بالطابوق وفق طراز يعود لعمارة ثلاثينات القرن العشرين ومن طابق واحد. يتكون تخطيط البيت من مدخل أمامي مستعملة غرفة الضيوف على اليمين وغرفة معيشة العائلة على اليسار ومدخل الهول في الأمام يقع على يمين ويسار غرف نوم وعلى اليمين يقع الحمام وعلى اليسار المطبخ بينهما باب تؤدي الى الحديقة الخلفية .
أما اثاث بيت الزعيم ، وهو من كبار ضباط الجيش العراقي ، فهي بسيطة الى درجة متناهية . غرفة النوم خالية من السجاد تحتوي على سرير حديدي ودولاب حديدي . أما السرير فهو من الحديد الذي تستعمله العوائل البغدادية للنوم على السطح والدولاب فهو من الدواليب الحديدية البيضاء المزججة مع رفوف ، المستعملة في المستوصفات الطبية . وأما غرفة الجلوس فان أثاثها يتكون من تختين خشبيتين من النوع المستعمل في المقاهي الشعبية. وأما الحمام فيتوفر فيه حوض ماء من الموزاييك ، شائع الاستعمال لدى ذوي الدخل القليل ، مع طاسة لسكب الماء على جسم الانسان و تختة خشبيه للجلوس ، والماء الحار يسخن من الخارج بحرق النفط . لم الاحظ اثاث في المطبخ سوى طباخ ذو ثلاثة عيون وبعض الادوات المعتاد وجودها في المطبخ . لا يوجد في البيت اثاث اخرى تجلب الانتباه. أما الحديقة الخلفية فلا يمكن الدخول اليها بسبب تواجد كلاب الحراسة الشرسة.
بلغنا رشيد المطلك ان ما يتوفر لدى الزعيم من مبالغ لإصلاح داره هو اثنان وعشرون الف دينار وحذرنا من تجاوز هذا الرقم عند العمل على هذا المشروع .
بدأ قحطان بوضع المخططات الأولية والفكرة التصميمية الأولية للتصليحات آخذين بنظر الاعتبار متطلبات سكن رئيس دولة ، من متطلبات السكن والمعيشة في البيت ، من تعديلات على الهيكل الانشائي للدار بموجب الاستعمالات المتوقعة من قبل رئيس دولة ، وما يتطلب من تأثيث مناسب للحياة اليومية ومتطلبات الحياة الرسمية والضيافات العراقية والخارجية كما درست متطلبات الحمايات ان تطلب ذلك.
ومن ناحية اخرى كان علي ان ادرس من ناحية انشائية وخدمية متطلبات الحماية الأمنية الخارجية للدار بصورة عامة وللجدران والسقوف والشبابيك الخارجية ومتطلبات الحماية من الحريق وما يتطلب من دراسات أخرى . صارت الفكرة لتطوير الدار وتكييفها كاملة تقريبا . وكان من واجبي ان أقوم بحساب كلفة الأعمال على ضوء هذه التفاصيل ، لتكوين فكرة عن الموازنة العامة لهذا المشروع . اتضح لنا ان المبالغ المطلوبة لإنجاز هذه المهمة تتجاوز المبالغ لمخصصة لذلك . قدمنا تقرير بهذه الحقائق الى الاستاذ رشيد المطلك . لم نتسلم جواب بالموافقة او المباشرة …. ولذلك اعتبرنا ان المهمة منتهية.
من هذه المهمة الصغيرة اتضح لي مدى بساطة الحياة المعيشية للزعيم عبد الكريم قاسم قائد ثورة 14 تموز 1958، اذا ما قارناها مع الحياة المعيشية للكثير من كبار ضباط الجيش العراقي آنئذ ومنهم ما نعرف من كبار شخصيات العهد الملكي وآبائنا ومعارفنا من كبار قيادات الجيش العراقي . لقد أثبت الزعيم عبد الكريم قاسم طيلة فترة حكمه وحتى مقتله في انتكاسة 8 شباط 1963 انه زاهد في الحياة ويطمح كثيرا في رعاية الطبقات الفقيرة والمعدمة من المجتمع وأراد ان يكون نموذجا للإنسان المتعفف في خدمة المجتمع .
مع الزعيم عبد الكريم قاسم… دراسة إحالة مشروع قناة الجيش
كانت مؤسسة دوكسيادس قد وضعت تخطيطا لمدينة بغداد ، يتضمن مواقع المشاريع السكنية ، فضلا عن مقترحات اخرى ، منها استحداث قناة مائية في شرق مدينة بغداد بعرض 20 مترا ، تنقل المياه من نهر دجلة شمال مدينة بغداد ( صدر القناة ) حتى نهر ديالى في جنوب المدينة ، وعلى جانبي هذه القناة شريط اخضر ، مع طريق رئيس للمرور على جانبي القناة ، لتسهيل الانتقال من جنوب المدينة الى شمالها بسهولة .
أعلنا عن المناقصة لهذ المشروع في سنة 1961 ، وتقدم عدد من الشركات الكبيرة ، كان المقاول الاول غير عراقي وقدم اقل مبلغ ، والثاني شركة عراقية لها خبرة جيدة ، الا ان سعرها يزيد على الاول بنحو 15 بالمئة . وبعد ان تأكدت من توفر جميع المكائن اللازمة والامكانية المناسبة للمقاول العراقي ، قدمت تقرير الاحالة مقترحا مفاتحة الشركة العراقية لتخفيض اسعارها واحالة العمل اليها ، واناطة مسؤولية الاشراف الى امانة العاصمة كونها الجهة المستفيدة من المشروع . وبعد تقديم التقرير الى مجلس الاعمار ، طلب مني ضباط لجنة انشاء الدور السكنية للضباط في بغداد ، وهي لجنة مكونة من ثلاثة ضباط برتبة زعيم ان احضر الى مقر وزارة الدفاع ظهر ذلك اليوم ، مع تقرير المشروع وخرائطه لبحث الامر . ولا اعلم ، لماذا لم يطلب من وزير الاسكان او المدير العام للإسكان ذلك ؟
حضرتُ الى مقر وزارة الدفاع ، وهو مقر عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء ووزير الدفاع ، فضلا عن كونه رئيس مجلس الاعمار . وبعد انتظار زهاء الساعة ، استدعيتُ للدخول الى صالة الاجتماع ، وهي الصالة التي يستقبل فيها قاسم ضيوفه او مسؤولي الدولة . كان الزعيم قاسم يجلس متوسطا الطاولة الكبيرة ، وبعد ان قُدمت اليه من قبل اللجنة المذكورة ، حياني بلطف ، وطلب الي الجلوس الى جانبه . وفي الجانب الآخر او على يساره جلس الاستاذ محمد حديد وزير المالية ،وهو موضع اعتماد الزعيم وثقته ، وحول المائدة جلس عدد من كبار الضباط .
طلب الزعيم قاسم مني ان اشرح له مشروع قناة الجيش وشرح تقرير الاحالة . فتحت الخرائط وبدأت بالحديث عن المشروع واهميته ، وملاحظاتنا حول المناقصين المتقدمين واسعارهم وخبراتهم . وذكرت ان مقترحنا هو احالة المشروع الى المقاول الثاني ، لكونه عراقي ، وعدم تحويل العملة الصعبة ، وتشجيع المقاولين العراقيين ، اضافة الى ان الفرق بالأسعار هو قليل . وعندما استفسرنا من المقاول عن سبب ارتفاع سعره ، بين ان عدم استقرار سوق العمالة ، وعدم امكانية تجاهل طلب العمال لزيادة اجورهم ، كان السبب في ارتفاع سعر مناقصته .
سألني الزعيم عبد الكريم قاسم : وما هو رأيك ؟ وكم تقدر ان ينقصّ المقاول من اسعاره ليكون مؤهلا لإحالة العمل اليه ؟ . اجبت : ان تم تخفيض السعر المقدم بنسبة عشرة بالمئة ، فانا اعتقد ان ذلك مقبول ،لكون العمل يحتاج وضع تصاميم تفصيلية للمشروع ايضا . فسألني : وماذا عن الجسور فوق القناة ؟ . اجبت : ان ذلك سيأتي في مناقصة لاحقة . اعترض قاسم على ذلك ، وقال : ماذا يحدث لو تأخر انشاء الجسور واراد الجيش ان ينسحب من بغداد لأي سبب ؟ . لم يكن عندي جواب سوى قولي : علينا اذن ان نعلن عن مناقصة الجسور فورا . اجابني : كلا .. اطلب من المقاول الاول ان يصمم ويشيد الجسور .. وضغط على زر الجرس المعلق فوق المائدة ، وطلب من المرافق احضار المقاول او من يمثله ، واضاف ان طعام الغداء (الكباب من ساحة الميدان ) سنتناوله معا لحين حضور المقاول . والتفتَ الى الاستاذ محمد حديد وتحدث حول امكانية السيطرة على اجور العمال ، وتأثير ذلك على المشاريع . اجاب حديد بأنه متفائل بان ذلك لا يحدث بالشكل الذي تصوره الآخرون .
ثم حضر الكباب المشوي والطرشي والخبز العراقي ، وأكلنا حتى الاكتفاء ، ثم شربنا الشاي العراقي الجيد . واستمر الحديث حول مشاريع الاسكان ، لاسيما اسكان الضباط ، وكانت احاديث طبيعية وخالية من التكلف والرسميات ، استمرت زهاء الساعتين ، وبعدها جاء المرافق وقال : سيدي حضر ممثل المقاول ، ثم أدخل الصالة ، وهو لا يعلم سبب احضاره ،فبدت عليه علامات الارتباك والقلق . طلب منه الزعيم ان يستريح امامه من الجانب الاخر للمائدة . وقد لاحظ الزعيم ارتباك السيد جميل ، فقال له : لا تقلق نحن هنا للتحدث معك حول مشروع قناة الجيش ، فقال له انه اقتيد من قبل بعض العسكريين ، وكأنه ملقى عليه القبض ، ويرجو امهاله قليلا ليسترد انفاسه ويستريح .
شرح الزعيم سبب لقائه هذا ، وطلب من ممثل المقاول تخفيض اسعار المناقصة المقدمة ، بعد ان طمأنه بعدم حدوث زيادة في اجور العمال ، فتم الاتفاق على تخفيض السعر بنسبة 10 بالمئة ، وأبلغ ممثل المقاول بان المشروع سيُحال الى شركته . وفي الختام اتخذ القرار وانصرفنا بعد الاستئذان . واصبح المشروع من اعمال امانة العاصمة .
أنشاء مدينة الثورة في شرق بغداد (الصدر حالياً)
قرر الزعيم عبد الكريم قاسم في اوائل سنة (1961) اخراج جميع سكان الصرائف الى خارج مدينة بغداد ، وأخلاءهم من الاراضي الخالية التي شيدوا عليها صرائفهم واكواخهم ، في مناطق مختلفة من بغداد ، مثل الشاكرية في الجانب الغربي ، وخلف السدة ومحلات بغداد وغيرها في الجانب الشرقي . وطلب قاسم انشاء دور خاصة لهم ، وبعد انجاز الوثائق من قبل قسم التصاميم واحاله العمل تمت المباشرة بإنشاء ( 1000 ) وحدة سكنية في شرق بغداد مع خدماتها ، وزعت على المستحقين من تلك العوائل ، واطلق اسم مدينة الثورة على ذلك المشروع . ولما كان عدد تلك الدور غير كافٍ ، فقد تقرر اعتماد تخطيط القطع السكنية كأراٍض وتوزيعها على المستحقين ، وهم يشيدون دورهم ، بعد قيامنا بإنشاء شبكة الخدمات كاملة والأبنية الخدمية لتلك التجمعات السكنية الجديدة . غير ان هذه العملية توسعت ، وبدأت الهجرة من الارياف جنوب العراق تزداد ، بلا تنظيم او تحديد ، الى ان بلغ عدد نفوس مدينة الثورة زهاء مليون نسمة .
صحيحٌ ، ان اعمال مشاريع الاسكان من الاعمال غير المعقدة مقارنة مع المشاريع الكبرى التي كانت تنفذ في انحاء العراق ، الا ان الخبرات الهندسية التي تعلمناها من تلك المشاريع ، بعد الغاء مؤسسة دوكسيارس ، كانت كثيرة .. ان قضية السكن في أي بلد، من اهم القضايا واخطرها ، قد تُفضل المشاريع الاسكانية على المشاريع الاخرى وتتقدم على سواها . وكثيرا ما تدخل الجانب السياسي والتنافسي في الموضوع . لقد استطعنا ان نحقق الاهداف والمهام مع المهندسين الذين تم تعيينهم وتدريبهم ، وأنيطت بهم المسؤوليات من تنفيذ ومراقبة وغيرها . استطعنا ان نُنشىء نحوعشرين الف وحدة سكنية مع كامل الابنية الخدمية وشبكات الخدمة اللازمة لها خلال السنوات من 1959 ولغاية 1964 . ولم يزل الناس يلهجون بإحسان لما قدمناه في تلك الفترة من مشاريع صغيرة او كبيرة ، بقيت عالقة في الذاكرة العراقية على مر السنين .