قبل 54 عاماً

في 3/7/1963 انطلقت قبضة من أشجع ما أنجبته هذه البلاد من أجل حريتها وكرامتها، شباب عسكريون ومدنيوين لم يتجاوزوا العقد الثالث من العمر، تحت قيادة اسطورة الشجاعة والإيثار العريف حسن سريع، لينفّذوا ما عرف بـ (انتفاضة معسكر الرشيد)، رداً على سلطة (المنحرفون) التي اغتالت الجمهورية الأولى ومشروعها الوطني والحضاري في شباط من العام نفسه. لأسباب فنية وتكتيكية محضة، لم تتمكن تلك العملية الجريئة والجسورة من الوصول لهدفها، في استئصال ذلك الورم السرطاني الذي حول حياتنا لاحقاً الى مسلسل طويل من الكوابيس، ما زلنا نعيشه اليوم مع أحفادهم الحاليين من نسخ عصابات داعش وغيرها من سلالات الهمجية والإجرام. صحيح أن انتفاضتهم الباسلة قبل 54 عاماً لم تفلح في الوصول لأهدافها النبيلة، والتي كشفت عنها المعطيات والوثائق لاحقاً؛ حيث روح الإيثار والوعي العميق لما رسموه من خطط لانتقال الحكم للأحزاب والشخصيات المشهود لها بالوطنية والنزاهة والكفاءة، أي أن تلك القبضة الجسورة من شباب العراق (كانوا من كل تضاريس الوطن وثقافاته وتعدديته الجميلة) أدركوا وظيفتهم وخطورة ما ينهضون به تماماً؛ بوصفهم رأس رمح لشعبهم في ذلك الظرف العصيب الذي عاشه آنذاك، هذا الإرث الذي لا يقدّر بثمن هو ما نحتاجه اليوم وغداً، من أجل إعادة بناء هذا الوطن القديم.
ما الذي تعنيه تلك الوثبة الجسورة في الثالث من تموز، أي بعد أقل من خمسة أشهر على ارتكاب أبشع الجرائم، بحق أفضل ما أنجبته هذه الأرض من ملاكات سياسية واجتماعية وعلمية..؟ إنها تعني الكثير، وهذا ما أدركه أعداؤها ومن يمثلون ضدها النوعي، عندما نفّذوا برنامجاً شاملاً لتجفيف منابع مثل تلك الانبثاقات الجسورة في حياة العراقيين. ذلك العمل الممنهج لاستئصال روح التمرد والكفاح ضد كل أشكال الظلم والتمييز، والتي طبعت شعوب هذا الوطن على مر التأريخ، عاقبة برنامج الدمار الشامل ذاك، ما نشاهده اليوم من عجز وفشل ذريعين في مواجهة تحديات النهوض وإعادة بناء الوطن على أساس وطيد من التعددية والحداثة، والذي مثّل جوهر تلك الانتفاضة الرائعة في تأريخنا الحديث. بعد كل ذلك العمل الواسع والمنظم لمسخ الضمائر والعقول وتزييف الوقائع والأحداث، ليس غريباً أن لا يتذكر العراقيون (إلا ما ندر) مثل تلك البطولات الخارقة وروح الإيثار التي رافقتها، لا أحد يعرف من هو حسن سريع ابن الثالثة والعشرين عاماً، والذي كان حتى في عيون جلاديه نسيج وحده من البطولة والحكمة والإيثار.
هكذا نهدر مثل هذه الصفحات المتوهجة من البطولات، ليستفرد بنا حثالات البشر وماكنتهم الاخطبوطية للتضليل والمسخ والتزييف. وحده الباحث المنصف والشجاع الدكتور علي كريم، هو من التفت لهذا الرأسمال الرمزي والقيمي الذي مثلته انتفاضة الأحرار الكادحين في معسكر الرشيد، في كتابه المهم (البيرية المسلحة) والذي بذل فيه جهداً خارقا من أجل جمع الشهادات والوثائق اللازمة عن تلك المحطة المشرقة في مشوار الكفاح من أجل الحرية والكرامة. لولا ذلك الجهد الاستثنائي الذي بذله الراحل الدكتور علي كريم، لالتحقت تلك الوقائع والأحداث الى مقابر النسيان الجماعية والتي لا تقل فتكاً وبشاعة عما اكتشفناه من مقابر جماعية للبشر بعد زوال النظام المباد، إن “البيرية المسلحة” ما زالت تنتظر من يكشف عن كنوزها التأريخية والقيمية بوصفها شرارة ما زالت تومض لتقاليد وقيم أخرى تحت أنقاض الهزائم والخيبات..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة