النظام اللفظي الموغل بالشاعرية الجاذبة (وأسألهم عن القرية.. أنموذجا)

علوان السلمان

ـ لن تجد قوس قزح ما دمت تنظر الى اسفل // شارلي شابلن
..القص القصير بتنوعه البنائي فن اتصالي عبر فضاء حكائي محدود بنائيا وجماليا..يعتمد تقانات فنية تتمثل في(الرمز والتناص والانزياح اللغوي والفكري والتنقيط والتكرار..)..اضافة الى الاساليب البلاغية(استعارة/مجاز/ طباق/ تشبيه/..) مع اقتصاد لغوي ومعالجة مركزة واعتماد المفارقة الاسلوبية.. المعطى الذي تتحكم فيه المتضادات الثنائية المتصارعة داخل النسيج النصي المتجاوز بشحناته الدلالية. وترميزاته.. وتكثيفه لعوالمه.. وانفتاحه على كل الازمنة..بتوهجه الراصد للحظة العيانية..واحتفائه باليومي وقيامه على الرؤيا والتكثيف بأبعاده الجمالية والدلالية المقتربة من قول النفري الصوفي(كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)..بلغة زئبقة مكتظة بقلق مجتمعي متحول باستمرار من اجل خلق واقع محتمل الوجود عبر منظومة لغوية لها خصوصية لامرئية..
والقص القصير جدا نص حداثي ولد من افرازات العصر الذي وسم بعصر السرعة والتطور التكنولوجي والطابع التنافسي من اجل تحقيق كينونة الانسان.. فكان حضوره استجابة لمتغيرات الحياة الثقافية وتحولاتها الحضارية فانتشل ذاته من الاشتراطات والقوالب الجاهزة واختار الوسائل التعبيرية بشكل يوافق الوعي الاجتماعي والمعرفي وفق نظام لفظي موغل بالشاعرية الجاذبة.. قائم بذاته ورؤيته الفنية والتقنية الخالقة لنصه المستفز لذاكرة المستهلك.. باعتماد الاقتضاب الجمالي بتوظيف بعض الاساليب البلاغية التي تفضي بالذات المنتجة الى مناخات وفضاءات لا مرئية في هيكليتها البنائية التي تنتمي الى الغرائبية باستخدام عنصر المغامرة بلغة متشظية..خالقة لصورها المشهدية النابشة لذهنية المستهلك(المتلقي) للكشف عما خلف التراكيب والالفاظ الرامزة التي تجر متلقيها صوب مجسات تأويلية ذات فسحات جمالية…
وبمساءلة النصوص السردية التي نسجت عوالمها انامل القاص انمار رحمة الله بكل مشاهدها التي تجمعها وحدة موضوعية وتكامل درامي وسرد فني.. والتي اندرجت تحت عنوان(واسالهم عن القرية…)..المستل من قوله تعالى(واسالهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر…)..الاعراف/167..والذي يتشكل من تركيب استفساري يرمي الى العلاقة المتفاعلة والمتن الذي انشطر الى شطرين غير متكافئين.. الاول يتحاور مع المكان(القرية) وشخوصها التي تحضر وتغيب نتيجة احداثها الغرائبية المتشابكة مع وجودها الانساني(الرسام رمز الجمال وطهارة النفس.. ترفضه القرية الصماء وتطرده لقبح وجهه.. والحكاء الذي يمثل فلسفة الحياة والصراع بين القديم والحديث(الكهل الحكاء والشاب الحكاء)..وعلى اثر ذلك تنبذ القرية واهلها الشاب لأنها تحب الجمود الفكري..والمعلم رمز التنوير والروح الانسانية..الذي ينطبق عليه قول الشاعر في النص:
كن كالنخيل عن الاحقاد مرتفعا// ترمى بصخر وتعطي يانع الثمر
اذ حقد الحوذي عليه بعد فقد حماره وعثور المعلم عليه..وهناك العازف والواقع الاجتماعي الاصم الذي يرفض العزف وصاحبه.. الذي يظل يعزف بالخفاء حتى الليلة الاخيرة التي طربت لانغامه حتى النساء اللواتي ولدن اطفالا بصواوين.. وهناك الهتر المسالم الذي يتأقلم مع كتبه ولا يتأقلم واهل القرية الصم..لذا يتجاوز اساءتهم منطلقا من الحكمة(عامل الناس على قدر عقولهم) مما اثقلهم بالحقد حد الجنون فقتلوه.. وهناك نص المرآة النقاء الحقيقي الذي لا يعرف المراوغة مع من يريد ان يشاهد نفسه ..كونها الحقيقة التي تعكس الاشياء دون رتوش.. )…اما قسمها الثاني فقد غلب عليه القص القصير جدا.. وسبقهما توصيف شكل نصا موازيا للمتن نسجته انامل القاص والروائي محمد خضير.. منه..(احسب انفراد قصص القسم الثاني من المجموعة بمقاييس خاصة يبرره قصر النصوص وتركيز ثيماتها وان اشتركت مع القسم الاول في الغرابة والانتحاء عن عالم معقول وملموس الحدود والمستويات..) ص7..
هذا يعني ان النصوص تناقش واقعا مأزوما يشعر فيه الانسان بالاغتراب المجتمعي والمكاني ببناء سردي خالق لمشاهده التخييلية ومواقفه الانسانية..
(جهز حكاء القرية نفسه ليلا..متعطرا بأطيب العطور..مزهوا بالملبس الحسن..مختالا بعصاه التي حفظت الارض نقراتها..متوجها الى مجلسه المعتاد..استوقفته الدهشة حين صدم بنزارة عدد الجالسين وقلتهم..فاضطر الى سحب احدهم هامسا في اذنه: اين اختفى الناس؟ وماذا شغلهم عن مجلسي؟. فأحابه فاضحا ما كبت في صدره وصدور القلة الباقية في المجلس(لعل المتخلفين عن مجلسك سيدي قد طابت لهم حكايات حكاء شاب جديد..اقبل الى القرية مؤخرا)..أخذت هذه الجملة من وقت الحكاء الشيخ بضع ثوان وبعدها انتبه الى نفسه وقد طال سكوته..ثم اعتلى منبره ليكمل على مضض حكاية تلك الليلة ثم توجه محثوثا بالفضول القاتل صوب مجلس الحكاء الجديد خفية..تفاجأ حين رأى البسمة والانتهاج قد طرزا محيا الاطفال والنساء والرجال وعلامات الرضا والاستحسان البائنة في حركات رؤوسهم وانجذاب اسماعهم..فانزوى متلفعا في طرف المجلس مستمعا لحكاء شاب..وحكايات عن مستقبل كان يصف لهم ضياءه ورونقه.ارتعشت عينا الحكاء الشيخ..واحس بحرقة توزعت على مساحة صدره..فنفض عباءته وهم بنفسه طاردا اياها راجعا الى منزله تلك الليلة..) ص21 ـ ص22..
فالنص يتوهج بصوره المتخيلةالتي تسبح في عوالم الذات عبر الانا التي تنفذ بشكل عميق في الانا الاخر بلغة يومية تشكل مشاهد التواصل عبر الحركات والايماءات مع استثمار الفعل الذي ينطوي على بعدين متداخلين: اولهما حدثي..وثانيهما زمني معبر عن رؤى يسعى المنتج ( القاص) الى تحقيقها والكشف عنها باعتماد التكثيف الجملي وايجاز العبارة باستخدام الالفاظ المجازية المحققة للانزياح المتداخل مع المكونات اللغوية(الرمز/المجاز/ الاستعارة..) لاثراء الدلالة ومنحها دفقا من الخصب والحركة..
(على اريكة انتظار الحافلة جلس رجلان بالصدفة..قال الذي على اليمين للجالس على اليسار: (الحياة مقرفة) فلم ينبس الآخر بكلمة.. فكرر المحاولة)الحياة مع كل بشارات التطور تحولت الى شيء ماسخ……)استمر الجالس على اليسار ساكنا..ناظرا باستغراب للجالس بجواره..أقبلت الحافلة فانتصب الرجل الجالس على اليسار واقفا..سائرا بحذر شيخ ليركب الحافلة التي غادرت المكان مخلفة كمية من الدخان..وكان مكتوبا على جانبيها عبارة(معهد الامل للصم والبكم)..في ذلك الاثناء وقف الرجل الجالس على اليمين بعد ان شعر بمغادرة الرجل الجالس قربه مرتديا نظارة سوداء واسعة…ثم غادر المكان وهو يجس الارض بعصاه…) ص112..
فالنص يكشف عن العلاقة التفاعلية التي تنشأ زمانيا ما بين الذات المنتجة ومكانها المشخصن على المستوى التصويري..التخييلي عبر الذاكرة التاريخية والمعرفية باعتبارها منظومة ثقافية..اجتماعية داخل مسارات النص..كونه فضاءً سرديا ونفسيا ووجدانيا يعبر عن حالة ترتكز على فعل التذكر الذي تكمن فيه براعة النسج البنائي من خلال صياغته ومزج الممكنات التصويرية والزمكانية ..فضلا عن هيمنة المؤثرات الروحية التي اسهمت في تجاوزه والخروج ببنائه المشهدي من السياق المألوف الى سياق لغوي مليء بالايحاءات..باعتماد عناصر القص (الحدث/الشخصية/الزمان/المكان بشقيه المغلق والمفتوح/مع قدرة على التكثيف الدلالي واثارة التأويلات باستخدام عنصر المفارقة الادهاشية..الحاكمة لستراتيجية النص التي يظهرها المنتج بوعي.. لكي تعمل على تفعيله وتشكل احد اسسه الجمالية..اذ(تحول التداولي الحياتي الى معطى لغوي ذي حمولات متزاحمة) عبر لغة تقوم على مستويين:اولهما ظاهري يشكل المشهد الموضوعي.. الواقعي.. وثانيهما ضمني يشكل المفاهيم المضمونية..اضافة الى توظيف تقانات فنية يأتي في مقدمتها التنقيط الذي يستدعي المستهلك(المتلقي) لملأ بياضاته بما يتناسب والنص بلغة تعتمد على السياق والتركيب الخالق للمشهد..
وبذلك استطاع القاص بصفته جزء من منظومة ابداعية الارتقاء بالنص وتجاوز طرق التعبير التقليدية والزمكانية بالخروج عن النمطية والانتقال الى جمالية الكتابة..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة