صفاء ذياب.. شاعر الفوتوغرافيا ومكتشف رمزية المهمل وشعرية التفاصيل

ناجح المعموري

وباختصار شديد اليد هي المتحقق الماثل أمام أي واحد منا في الحياة / والعالم ، وهي الجزء الفاعل غير قابل للتعويض . ولهذه الاعتبارات وكثير غيرها انتبه الشاعر صفاء ذياب لليد وتعاون مع مهارته الفوتغرافية وأعاد صياغة اليد الشعرية الى أخرى فوتغرافية وقال صفاء في نص « وحدة « :
من الطارق ؟
يدّ ما تطرق باب الليل
الليل واسع جداً في هذا البيت
لكني أتحسس اليد التي تطرق الباب
ترسم في مقبضه جلبة
وتختبئ خلف الليل
فلا الليل ينتهي
ولا اليدُ تتعب / ثلج ابيض بضفيرة سوداء ص23/
على الرغم من أنني لا استطيع تجزئة صفاء الى شاعر / وفوتغرافي وصحفي . لان الكائن بمكوناته وعناصره هو واحد مكتمل ، لكني افترض ما هو داعم لهذه الواحدية الجميلة المستفيدة من مجاورها الفني وهذا ما افترضته أنا وتأكد لي بعد الاطلاع على تجربته الشعرية وأنا غير معني بالفترة الزمنية وأسبقية أي من الفنين ، الشعر أم الفوتوغرافية أو بالعكس ؟ لكني أرجح افتراض قراءة خاصة تذهب باتجاه أو آلية الفوتوغراف على النص الشعري . والصورة هي الأسبق في الحياة والعالم ، وأول ما رآه الكائن هو الصورة ، لذا جعل منها نمطاً لغوياً معروفاً في عديد من حضارات الشرق ، ولأنها الأولى تمتعت بالهيمنة وتسللت الى الأنواع الأخرى . ولحظة معرفة الفنان لبلاغة الصورة الملتقطة بالكاميرا تحفز شعرياً ونجد في النص السابق توظيفاً لأهم الرموز والعلامات التي صنعها وانشغل بها صفاء ذياب ، وهي الباب / المطرقة / اليد / الليل ، هو فضاء واسع حتى في النهار ، لأنه حاضر من خلال ظلال فوتوغرافيات الفنان ، ومعاينة عمق العمارة التراثية ستكتشف ليلاً حالكاً في نهار مضيء .
اليد مازالت تلهو بهذا المقبض // ص23
كان الشعر والفوتوغراف من موثقات المنفى . وديوانه ثلج أبيض بظفيرة سوداء والعلامة من فيوضات المنفى وقد تبدّى في إزاحة الكائن الذي لا يملك ما هو خاص بجاره .
لأن صفاء مثلما ذكرت في حديثي عن العناصر الثقافية والفلسفية لليد ، جعل منها غرسة ، واليوتوبيا حاضرة في النص الآخر ، من أن يجعل منها غرسة ، تنمو وتتكاثر ، لتصير لديه أياد كثيرة ، تصور هذه الغرائبية مثير بسرياليته والمفاجأة الطافحة في النص :
سوف أزرع يدي في الحديقة المجاورة لبيتي
لأنني منذ 35 عاماً لا أملك أرضاً ازرع فيها يدي
لهذا
قررت أن أسرق حديقة جاري ذات ليلة وأحفر فيها ملجأ ليديّ
الشاردتين
منذ سنين وأنا أبحث عن يدين حقيقيتين
كي أكتب قصيدة
وأنام … // ص44
دلالة الغرس مقترنة بكل الدلالات الوظيفية ، ذات العلاقة بالبناء ويتمظهر العقل عبر اليد والعين ويكونان مع العقل ثالوثاً هيغيلياً ووظفه مرلوبونتي وكان من قبل له وظيفة في الفلسفة الإسلامية وحصرياً لدى الفارابي .
لماذا هذه العلاقة الإشكالية مع الصورة ؟ وأعني تلك المتطابقة مع الواقع بكل دقائقها المثيرة للفحص والتأمل ، على الرغم من إننا نمر سريعاً أمام الواقع الحقيقي ، الممثلة له الصورة . إنه إشكال حقيقي يضع الصورة في مركز المواجهة الحقيقية الهادئة والصامتة . وربما استمرار مثل هذه اللحظات يضع المتلقي أمام ممكنات للحصول على جواب شاف وقانع وهو أن الصورة امتلكت حساسية عالية وانعكست فيها وعليها روح الفنان الخالق وهذا ما أكد عليه هيغل في أن الرسم أكثر جمالاً من الأنموذج أو الموديل ، بمعنى أن الصورة خلقاً لواقع تمظهر فيه نوع من حضور الحياة والعالم عبر فن ، يقترب من الكتابة المغايرة والتجديد ومثلما قال المصور وستون : كلما ظهرت الصورة مثيرة / وجميلة لنا يعني هذا بأنها مؤلفة بدقة ومهارة أكثر . وأكد عديد من المصورين على أن الفوتوغراف نوع من الكتابة .
وعي الحضور في الصورة أمر مثير لانتباهي وأنا أحدق بعدد غير قليل من هذه النماذج التي منحتنا قراءة خضعت لما اوحت به ولم نتعامل معها تطابقياً مع المجال الموضوعي الذي مثلته . أنها لقطات صارمة وحادة بدقتها وليس بانعكاساتها النفسية والبايلوجية . امتلاء الحضور والوعي به في صور دقيقة وحساسة ، فيها بلاغة الافضاء ، فالرجل المسن والأكثر أناقة من الذين بزيه وعمره ، جالس باعتدال واستقامة فوق كرسي مكسو بالشمس ، بيده عصاه / صديقة الشيخوخة ، امسك بها من المنتصف وكأنها ذات وظيفة ثقافية أخرى ، غير التي اقترنت بالشيخوخة ونحن نعرف بان العصا نظام ثقافي واجتماعي له أصول مبكرة في الديانات الشرقية واقتران جوهري بأهم الإلهة وحصراً تلك المقترنة بالحكمة وتشريع القوانين ، مثل الإله شمس وهو يسلم القوانين للملك حمورابي وبيده العصا والحلقة المدورة ، العصا علامة دالة على الرعاة / والأنبياء والملوك والقادة . كل هذه الاقترانات صاغت ملاحظتنا للرجل الكهل الجالس على كرسيه وكأنه منتصب عليه بإلهة لم تعكرها برودة الجو ، وما زاد في حضور الرجل بالصباح الشتوي البارد ، انشغاله بالثقافة وهذا سبب أخر لتكريس وعي الحضور ، وأبهة التمظهر أمام الآخرين الذي غابوا عن المشهد ، مثلما ذكرنا هذا من قبل . أنها ميزة للفنان صفاء ذياب ، تضغط عليه من اجل صنع جزء من الجزء والاكتفاء به وسط كل ما يمكن تشتيت عناية المتلقي. وحده بحضور مضيء ، مكشوف وكاميرا دنت منه وصنعت كهلاً صديقاً للكتاب ويتعاطى تبادله مع القراء ، وأي تعاط هذا الذي انشغل به هذا الرجل الشيخ ، المكسو بزيه العربي ومعطفه ، أنها يقدم رسالة لإسلام أخر غير الإسلام الغارق بالطقوس والندب والعنف الحاضر فيه . هذا لابد انه إسلام أخر غائب كان عنا سابقاً وسجل حضوره بعد السقوط . وتباهى الرجل بعرضه لمجموعة كاملة لعلي شريعتي مصفوفة بانتظام ساعدنا على قراءة الدورة الكاملة لشريعتي . أنها صورة معبرة عن جدل معروف ولا يحتاج توضيحاً ، فهي رسالة مختلفة وصريحة . ومثل هذا الجدل صامت ، مكتف بما أثارة ضمنيا من خلال الإعلان وما يتبدّى عنه من حضور ثقافي وديني خاص بطائفة معينة / وتمظهر الجدّل هنا أكثر بروزاً وتشكلاً الظاهرة المجتمعية كبرى في العراق ، ولم تكن هذه الصورة وحيدة ، بل هي متكررة ضمن النسق الثقافي والديني الذي صنعته الكاميرة ، ففي صورة أخرى ذات مكان أوسع ، لان حضورها لن يكون إلا من خلال المكان الذي تبدّى عن علاقة وثيقة مع المقدس على يسار المكان / الزقاق الضيق لافته سوداء مصنعة لنا خصيصاً مرسوم عليها سيف ممتد وسط اللافتة الإعلانية ، المعبرة عن طقوس دينية مرتبطة تراجيديا الحسين ، هذا حضور أخر ، ومن نوع فيه تماثلات مع ما أفضت إليه صورة الرجل العجوز أمام معروض على شريعتي ، وتكررت هذه الميديا باعتبارها ثقافة متسيدة في مشاهد الحياة الاجتما سياسية ، وتختزل الجدل بوضوح وتكررها ضمن فوتغرافيات الشاعر صفاء ذياب . تدوين كمعلم لمرحلة من التحويلات المجتمعية وهذا تركيز بنوع أخر من الأنساق المعينة بالمقدس ، فيه تأكيد على وظيفة الفوتغراف التي تذهب سريعاً نحو البؤرة الحاملة للرسالة أو الشفرة . وما تحفزه لدينا اللافتة المصنوعة خصيصاً هو الهوية الدينية / الطائفية في محيط ذلك الزقاق للبغدادي ، المستريح من الصخب ، مكتفياً بحضور آدمي قليل جداً ، زاد مشهديته بانعكاس ظلال الحضور في الصورة وفوقهم تصعد قبة مدورة من الحجر الأزرق الناصع تحت بهاء الشمس . وتتنوع مهيمنات المقدس ويغادر عنفه المعلن عنه عبر السيف في اللافتة السوداء التي تحدثنا عنها ، وأنا أدرك بان ، المقدس مهدد دائماً بتعطله إذا لم يبتكر عنفاً ثقافياً ومادياً وتأثير هذه الثقافة المباشرة والرمزية هائل وخطر تكتفي الجماعة بطقوسها المعلن عنها خلال اليوم ولمدة طويلة ، لجأت الى إعلانات الشوارع والجدران . ووضعنا الفن أمام ثقافة عامة تماماً . إسلامية واضحة لا حضور لجماعة على حساب جماعة أخرى ، أنها معروضة بأعداد مثيرة ومتجاورة ووجدت في الإعلان عنها نوعاً من سينوغرافيا مكانها وهذا المقدس لم يشفع للطفل / العامل الذي يدفع بعربته فارغة ، تغطى جسدها الداخلي بقطع كارتون تكوم فوقها عدد من الحبال الأكثر تكرراً في فوتغرافيات الفنان لتنوع وظائفها التجارية . لكن الطفل وضعنا أمام أسئلة غياب مؤسسات الدولة وضعف حضور القانون مع العدالة الاجتماعية وحقوق المواطنة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة