تداعيات الانسحاب الأميركي من اتفاقية باريس للمناخ

(1ـ2)
كارن أبو الخير

تبدو الولايات المتحدة الاميركية مع إعلان الرئيس الاميركي «دونالد ترامب» انسحاب بلاده من اتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ في الأول من يونيو الجاري، وكأنها تخلت طوعًا عن موقعها القيادي على الساحة الدولية فيما يتعلق بهذه القضية، بعد أن كانت خلال السنوات الماضية القوة الدافعة وراء التوصل إلى توافق بين الدول المتقدمة والصاعدة في هذا الصدد.
في المقابل، تُشير الاستنكارات المتوالية من أطراف دولية، ومن الداخل الاميركي ذاته، إلى أن المجتمع الدولي قد قطع شوطًا طويلا تجاه الاقتناع بضرورة خفض الانبعاثات الكربونية، والأخذ بخطوات عملية في سبيل تحقيق هذا الهدف، ما يجعل موقف الإدارة الاميركية وكأنه «سباحة ضد التيار»، داخليًّا وخارجيًّا.
وعلى الرغم من صعوبة تحديد تداعيات الانسحاب على الاقتصاد الاميركي أو على تحقيق أهداف اتفاقية باريس فيما يتعلق بتخفيض الانبعاثات الكربونية عالميًّا؛ إلا أن مصداقية إدارة «ترامب» كحليف وشريك دولي قد تراجعت بكل تأكيد، ما يفتح الباب على مصراعيه لدول وقوى أخرى لتتصدر، فرادى أو مجتمعة، لدور القيادة الدولية فيما يتعلق بهذه القضية المحورية، والذي قد ينسحب إلى إعادة تشكيل موازين القوى في النظام الدولي بنحو عام.

دعاوى الانسحاب
استدعى المنطق الذي استخدمه «ترامب» لتبرير خروج الولايات المتحدة من الاتفاقية إلى الأذهان ما رصده الإعلام الاميركي من إصرار الإدارة الاميركية على «حقائق بديلة» فيما يتعلق بالعديد من المواقف، كان أشهرها تأكيد الرئيس الاميركي ومعاونيه أن عدد الذين حضروا حفل تنصيبه في العشرين من يناير 2017 كان الأكبر تاريخيًّا، وأنه كان بالتحديد أكبر من عدد الذين حضروا حفل تنصيب الرئيس السابق «باراك أوباما» في العشرين من يناير 2009، على الرغم من مخالفة ذلك للحقائق التي سجلتها الصورُ والإحصاءات المتاحة عن عدد الذين استعملوا المواصلات العامة في ذلك اليوم.
ويلوح في منطق «ترامب» الإصرار على مواقف تبدو مغايرة للواقع والحقيقة فيما يتعلق باتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ؛ حيث قلل -على سبيل المثال- من تأثير الالتزام بها على تغير المناخ، مؤكدًا أنه «ضئيل جدًّا»، بالمخالفة لما يدفع به الإجماع العلمي بأن تحقيق الأهداف المرجوة من الاتفاقية، وإن كان ليس كافيًا لوقف تأثيرات تغير المناخ، فإنه حيوي وضروري، ويمثل خطوة لا غنى عنها لإنقاذ العالم من تداعياته السلبية.
من جانب آخر، عبَّر الرئيس الاميركي عن قناعته بضرورة انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية؛ لتجنيبها تداعيات ومسئوليات قانونية في حال عدم التزامها ببنودها، وهو ما يتناقض مع حقيقة أن تلك اتفاقية طوعية، ولا تنص على أي عقوبات، بل إنها تَركت لكل دولة تحديد المعدل الذي تلتزم به في تخفيض نسبة الانبعاثات الكربونية. وبالتالي، لم يكن «ترامب» في حاجة إلى الانسحاب من الاتفاقية إذا أراد أن يغير من الالتزامات التي اختارتها بلاده لنفسها تحت إدارة الرئيس السابق «أوباما».
وخلافًا لما سبق، يصر «ترامب» على أن الالتزام بالاتفاقية يتسبب في خسارة الاقتصاد الاميركي الكثير من الوظائف بسبب الاشتراطات البيئية، خاصة فيما يتعلق بقطاع إنتاج الفحم، والذي يتركز في الولايات التي مثلت قاعدته الانتخابية، متجاهلا حقائق متعددة متعلقة بهذا البعد، منها: أن عدد الوظائف التي يُوفرها قطاع الطاقة البديلة في الولايات المتحدة يمثل، بحسب دراسة صادرة عن وزارة الطاقة الاميركية في عام 2016، نحو 3 أضعاف عدد الوظائف التي يوفرها قطاع إنتاج الفحم، وأن القطاع الأول في طريقه للنمو المستقبلي بسبب اتجاه العالم كله بنحو متزايد لاستعمال الطاقة البديلة، بينما الفحم يتجه للاندثار لعدة عوامل، ليس أقلها طفرة توافر الغاز الصخري في الولايات المتحدة كمصدر أرخص وأنظف للطاقة.

معارضة داخلية
يعكس إصرار ترامب على أن اتفاقية المناخ تقوض السيادة الاميركية، وأن الانسحاب منها يُمكّنه من حماية الاقتصاد، بل والبيئة الاميركية بنحو أفضل، توجهات التيار المتبني للنزعة «القومية»، والذي يتصارع أو يتنافس مع تيار آخر في السياسة والمجتمع الاميركي، يؤيد الانفتاح على الخارج، ويؤمن بمزايا العولمة. ويمتد هذا الانقسام إلى المجموعة المحيطة بالرئيس الاميركي نفسه.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يتصدر صفوف الحاضرين لخطاب الرئيس ترامب مستشاره المقرب ستيفن بانون، الذي يُعد عرّاب الفكر القومي، أو ما يسميه «القومية الاقتصادية»، والذي يتبنى فكرة أن الاتفاقيات الدولية ومتعددة الأطراف جاءت على حساب مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية، وأن حركة العولمة بنحو عام تسببت في خسائر اقتصادية ملموسة.
وقد وجد هذا الفكر صدى لدى قطاعات واسعة من الحزب الجمهوري، الذي ترتفع به نسبة المتشككين في قضية تغير المناخ. كما وجد صدى في فئات المجتمع الاميركي التي ترتبط اقتصاديًّا بقطاعات تضررت من المنافسة الاقتصادية التي ارتبطت بالعولمة، والتي تأثرت أيضًا بسبب التطور التكنولوجي وتأثيره في رفع الإنتاجية من خلال زيادة الاعتماد على الميكنة وتقليل الاعتماد على العمالة.
في المقابل، هناك قطاعات واسعة داخل المجتمع الاميركي تُؤمن بالعولمة وقضية تغير المناخ، كشفت عنها ردود الفعل بعد إعلان الانسحاب من اتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ. ولهذا القطاع أيضًا ممثلوه في الدائرة المحيطة بالرئيس «ترامب»، وعلى رأسهم ابنته «إيفانكا» التي كانت من المنادين بعدم الانسحاب من الاتفاقية، والتي تواصلت شخصيًّا مع عدد من الشخصيات الاميركية المرموقة الداعمة لبقاء الولايات المتحدة في الاتفاقية، حيث طلبت منهم عرض رؤيتهم على الرئيس شخصيًّا. ومن المؤيدين داخل الإدارة أيضًا وزير الخارجية «ريكس تيلرسون»، إضافة إلى دوائر الأمن القومي التي عبرت عن قناعتها بأن تغير المناخ أصبح يمثل أحد تهديدات الأمن القومي الاميركي.
كما ينتشر الإيمان بأهمية قضية تغير المناخ بين الديمقراطيين، وعلى رأسهم الرئيس السابق «أوباما». وعلى صعيد الرأي العام، كشف استطلاع للرأي تم إجراؤه عقب الانتخابات الرئاسية الاميركية (أُجريت في الثامن من نوفمبر 2016) أن هناك دعمًا أمريكيًّا واسعًا للاتجاه إلى المحافظة على البيئة من خلال استعمال الطاقة البديلة، حيث أيد 85% استخدام الطاقة الشمسية والمولدة من الرياح. كما كشف عن دعم واسع لاستمرار الولايات المتحدة في اتفاقية باريس، حيث بلغت نسبة من يؤيدون ذلك بحسب الاستطلاع 70%. وعلى الرغم من تعهد ترامب في أثناء حملته الانتخابية بالانسحاب من الاتفاقية، إلا أن الاستطلاع يُظهر أن نصف من عرفوا أنفسهم كمساندين له عبروا عن رغبتهم في عدم انسحاب الولايات المتحدة منها.
وقد جاء حجم وشكل المعارضة لقرار «ترامب» داخل الولايات المتحدة لافتًا، ودليلا على أن الواقع على الأرض قد تغير بصورة أكبر مما استوعبته الإدارة، بما قد يحد -إلى درجة ليست بالقليلة- من تداعيات القرار نفسه.
وكان من أبرز ردود الأفعال التحالف الذي دشنته مجموعة من المدن والولايات والشركات الاميركية، والتي أعلنت أنها بصدد إعداد خطة تُقدم إلى منظمة الأمم المتحدة تتعهد فيها هذه الجهات بأن تحقق الولايات المتحدة الأهداف التي حددتها لتقليل الانبعاثات الكربونية في إطار اتفاقية باريس على الرغم من الانسحاب الرسمي الاميركي منها. ويضم التحالف ثلاث ولايات، هي: نيويورك، وواشنطن، وكاليفورنيا، و30 مدينة، من بينها لوس أنجلوس وأتلانتا، وكذلك مدينة بيتسبرج التي -للمفارقة- ذكر «ترامب» في خطاب الانسحاب من الاتفاقية أن واجبه أن يدافع عن مصالحها، لا عن مصالح باريس.
وقد انضم لهذا التحالف أيضًا 100 شركة، و80 جامعة، ما يؤشر إلى أن القيادة فيما يتعلق بقضية تغير المناخ قد انتقلت من مستوى الحكومة الفيدرالية إلى مستوى الحكومات المحلية والمجتمع المدني، حيث قطعت الأخيرة أشواطًا كبيرة على أرض الواقع فيما يتعلق بالتحول إلى الطاقة النظيفة وتخفيض الانبعاثات الكربونية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة