د. شادي عبدالوهاب
شهدت لندن يوم 4 يونيو الجاري هجمة إرهابية جديدة، حيث دهست شاحنة صغيرة عددًا من المارّة فوق جسر «لندن بريدج» بوسط العاصمة البريطانية، كما طعن المهاجمون أشخاصًا كانوا في سوق «بورو» المجاور، ما أسفر عن مقتل 7 بريطانيين، فضلا عن سقوط 48 جريحًا، بعضهم في حالات حرجة.
وقد أعلن تنظيم «داعش» مسؤوليته عن هذا الهجوم الإرهابي، الذي يعد الهجوم الثالث الذي تشهده بريطانيا منذ مطلع عام 2017، والثاني في أقل من أسبوعين، حيث سبقه هجوم مانشستر الإرهابي في 22 مايو الماضي، والذي لم تستطع الشرطة البريطانية أن تحدد بعد ما إذا كان منفذه ذئبًا منفردًا، أم أن خلية إرهابية ساعدته، وذلك على الرغم من اعتقال 12 شخصًا من المشتبه في تورطهم بهذه الهجمات.
طبيعة الحادث ودلالاته
في ضوء المعلومات الأولية المتوفرة عن حادث لندن، يمكن الوقوف على عدد من الملاحظات المتعلقة بطبيعة الحادث ودلالاته في ضوء تكرار الهجمات الإرهابية في بريطانيا خلال الفترة الأخيرة، وتتمثل أهم هذه الملاحظات فيما يلي:
1- بصمات «داعش»: تتشابه هجمات لندن الأخيرة مع أغلب الهجمات المرتبطة بتنظيم «داعش» في أوروبا، والتي تشمل الدهس أو الطعن بالسكين أو إطلاق النار، ولعل الاستثناء الوحيد في هذا الإطار هو هجوم مانشستر في مايو 2017، وحادث باريس في ديسمبر 2015، وبلجيكا في مارس 2016، حيث تم استخدام عبوات ناسفة. ومن جهة ثانية، فإن اختيار الأهداف في حادث لندن يتوافق مع دعوة «داعش» أنصارَه إلى استهداف المدنيين في الشوارع ووسائل المواصلات، وذلك من أجل إثارة الخوف لدى البريطانيين، وإظهار ضعف وقصور الإجراءات الأمنية التي اتخذتها الشرطة والجيش في أعقاب هجوم مانشستر الأخير.
2- هجوم مزدوج ومنظم: سعى الإرهابيون إلى إسقاط أكبر قدر من الضحايا، فقد قاموا بدهس المارة على جسر «لندن بريدج»، ثم قادوا سيارتهم إلى منطقة «بورو ماركت»، حيث نزل 3 إرهابيين وقاموا بطعن عدد من الأشخاص، ثم اشتبكت الشرطة معهم وقتلتهم. ويكشف هذا الهجوم المزدوج عن أنه مخطط له بدقة، ولم يتم بصورة عشوائية.
3- تصاعد الهجمات الإرهابية وتزايد حدتها: شهدت بريطانيا 3 عمليات إرهابية منذ عام 2017، وقد كان الفاصل الزمني بين هجوم ويستمنستر في 22 مارس الماضي، وهجوم مانشستر في 222 مايو، حوالي شهرين، في حين أن المدة الزمنية بين هجوم مانشستر واعتداءات لندن الأخيرة هي أقل من أسبوعين.
وفي مؤشر على تصاعد التهديدات الإرهابية في بريطانيا، أشارت «آمبر رود»، وزيرة الداخلية البريطانية، في مايو الماضي، إلى أن الأجهزة الأمنية تحقق في حوالي 500 قضية ذات صلة بالإرهاب، وتتعلق بنحو 3 آلاف شخص، إضافة إلى 20 ألفًا آخرين تحت المراقبة. كما كشفت «تيريزا ماي»، في كلمتها عقب حادث لندن، عن إحباط الشرطة البريطانية لخمس هجمات إرهابية منذ مارس 2017.
ويُمكن إرجاع ارتفاع حدة التهديدات الإرهابية إلى وجود حواضن للتطرف داخل المجتمع البريطاني، مثل مدينة برمنجهام البريطانية، كما ساهم في ذلك السياسات الحكومية القائمة على غض الطرف عن أنشطة الجماعات الإسلامية المتطرفة، وهو ما اعترفت به «تيريزا ماي» في الخطاب الذي ألقته في أعقاب هجوم لندن، حيث أكدت أن «هجمات لندن الإرهابية تُظهر أن بريطانيا متسامحة جدًّا مع المتطرفين».
ويزداد التهديد الذي تتعرض له بريطانيا، مع عودة المقاتلين الأجانب، والذين يُقدر عددهم في بريطانيا بحوالي 800 – 850 فردًا. ووفقًا لدراسة قام بإعدادها الخبير المتخصص في شئون الإرهاب «توماس هيجهامر» في عام 2013، فإن فردًا واحدًا من كل 9 إرهابيين عائدين نفذوا هجمات في الغرب خلال الفترة من 1990 وحتى 2010، وهو ما يمثل تهديدًا كبيرًا؛ إذ يعني أن حوالي 95 شخصًا على استعداد لتنفيذ هجمات إرهابية في بريطانيا.
ومن جهة ثانية، فإن إخفاق الشرطة البريطانية في إلقاء القبض على الخلية الإرهابية التي ساعدت في تنفيذ هجوم مانشستر، يعني أن هناك عناصر إرهابية أكثر تدريبًا، وقادرة على فهم الإجراءات الأمنية المعمول بها في بريطانيا، وتجاوزها.
4- سوء تقدير التهديدات الأمنية: فقد خفضت رئيسة الوزراء البريطانية «تيريزا ماي» مستوى التهديد الأمني، في 27 مايو الماضي، من «حرج»، ويعني أن هناك هجومًا وشيكًا، إلى «حاد»، وهو ما أرجعته إلى استبعاد مسؤولي أجهزة الاستخبارات إمكانية تعرض البلاد لهجوم آخر وشيك، وذلك بعد سلسلة المداهمات والاعتقالات التي قامت بها الشرطة البريطانية مؤخرًا.
ويُلاحظ أن هذا الإجراء الأمني تم اتخاذه على الرغم من تهديد «داعش» بشن هجمات أكثر حدة من هجوم مانشستر، وبعد أن جدد التنظيم دعوته، في 26 مايو الماضي، للمتعاطفين معه بتنفيذ هجمات في بريطانيا خلال شهر رمضان.
كما أن هجوم لندن وقع بالرغم من الإجراءات الأمنية التي تم فرضها في أعقاب هجوم مانشستر، والتي تضمنت نشر أفراد من الجيش في الشوارع لتأمين المنشآت الحيوية، وتأمين القطارات باستعمال ضباط مسلحين لأول مرة، إضافة إلى توسيع صلاحيات الشرطة في اعتقال وتوقيف المشتبه بهم، بموجب قوانين مكافحة الإرهاب.
5. عدم كفاية المعلومات الاستخباراتية: أحد الأساليب الفعَّالة في وقف العمليات الإرهابية قبل وقوعها، هو حصول أجهزة إنفاذ القانون على معلومات دقيقة وتفصيلية عن مثل هذه العمليات، والتنظيمات التي تخطط لها، وهو ما يكون نتاج جمع معلومات تقوم بها أجهزة الأمن والاستخبارات المحلية.
وقد وُجِّهت ضربة موجعة لهذه الجهود، فعندما كانت «تيريزا ماي» تشغل منصب وزير للداخلية في عهد حكومة «ديفيد كاميرون»، تم تسريح حوالي 20 ألفًا من العاملين في شرطة مانشستر، كما تم خفض ميزانية الوزارة بحوالي 4% سنويًّا، وهو ما أضر بنمط الشرطة المجتمعية القائم، حيث لم يعد لدى الضباط المعلومات الاستخباراتية المطلوبة التي كانوا يحصلون عليها من خلال تعاون المجتمعات المحلية.
تداعيات سياسية
من المحتمل أن يكون للهجمات الإرهابية الأخيرة في بريطانيا تأثير على ملفين مهمين، هما:
1- الانتخابات البرلمانية: جاء هجوما مانشستر ولندن الأخيران في أعقاب دعوة رئيسة الوزراء البريطانية «تيريزا ماي» إلى انتخابات مبكرة في 8 يونيو الجاري. وقد سعت «ماي» لهذه الانتخابات المبكرة، ظنًّا منها أنها يمكن أن تزيد عدد الأصوات التي سيحصل عليها حزب المحافظين في مجلس العموم البريطاني، خاصة وأنه يتمتع بأغلبية بسيطة، فضلا عن رغبتها في تقوية موقف بلادها في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وفي أعقاب هجوم مانشستر، أظهر استطلاع للرأي، أجرته شركة «يوجاف» (YouGov) ونشرته صحيفة «التايمز» في 31 مايو الماضي، أن حزب المحافظين قد يخسر نحو 20 مقعدًا في الانتخابات المقبلة، كما أظهرت استطلاعات أخرى تراجع الفارق بين حزب المحافظين وحزب العمال من 19 إلى 6 نقاط مئوية لصالح المحافظين.
وبطبيعة الحال، فإن حدوث عمليات إرهابية متتالية، وإخفاق الشرطة البريطانية في إجهاضها، فضلا عن توجيه انتقادات لـ «ماي» بسبب قيامها بتبني إجراءات تقشفية أثناء توليها وزارة الداخلية؛ قد يؤثر على فرصها في الفوز بأغلبية كبيرة في الانتخابات البرلمانية، خاصة مع نجاح زعيم حزب العمال المعارض «جيريمي كوربين» في زيادة شعبيته خلال الأسبوعين الأخيرين، وتحديدًا مع تغييره للأجندة الانتخابية من التركيز على ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى ملف الخدمات العامة، وعلى رأسها المدارس والمستشفيات.
2- المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي: سبق وأعلنت «ماي» أن الإخفاق في التوصل لاتفاق شامل مع بروكسل سوف يضر بالتعاون القائم بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي في مجال الجريمة والأمن. وفي ضوء الضربات المتتالية التي توجهها التنظيمات الإرهابية إلى بريطانيا، فإن «ماي» لن تستطيع أن تستعمل ملف التعاون الأمني كأحد أوراق الضغط في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي.
مُجمل القول، تؤشر الهجمات المتتالية لتنظيم «داعش» في بريطانيا، إلى أن الإجراءات الأمنية والسياسات البريطانية في التعامل مع التنظيمات المتطرفة، تحتاج إلى مراجعة. ولمواجهة مثل هذه التهديدات الإرهابية، بات على بريطانيا ليس فقط الاستثمار في تكنولوجيا المراقبة والرصد، بل وتبني سياسات مجتمعية تستهدف مواجهة حواضن التطرف في الداخل.
*مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة