أمجد ناصر
المعايير تُستمد، عادة، من التجربة نفسها، لكن هذه التجربة، التي تمكننا من استنباط المعايير والأحكام، لا تلبث تتجاوز الحدود المستمدة منها. كيف عرفت سوزان برنار بالإيجاز والكثافة والمجانية؟ من التجربة التي كانت موضع درسها الأكاديمي، وهي تجربة فرنسية في فترة معينة من عمر الشعرية الفرنسية، أي في حدود العقد السادس من القرن الماضي. كان لا بدَّ لرواد «قصيدة النثر» العرب الاوائل أن يستندوا إلى شروط وأحكام لتقعيد هذا الفن الشعري الجديد في عالم العرب، مثلما فعل رواد التفعيلة عندما سنّوا لها شروطاً ومعايير في الوزن على الأقل (البحور الصافية). ولكن حصل أن اولئك الرواد الذين عرفوا شكل قصيدة النثر في الشعرية الفرنسية، بوصفها جنساً أدبياً خاصاً، لم يدافعوا عما عرفوا. أقصد هنا أنسي الحاج وأدونيس، فهما من ترجم ونظَّر لهذه القصيدة في الأعداد الأولى من مجلة «شعر». صار الشكل الشعري الذي جاء به الماغوط أو توفيق صايغ، وغيرهما في تلك الفترة، هو قصيدة النثر رغم أنه لم يكن كذلك. لقد ميَّزت خالدة سعيد في أحد أعداد مجلة «شعر» هذا الأمر ووضعته بين أيدينا من جديد في كتابها «يوتوبيا المدينة المثقفة». أظن أن ذلك كان في ردّها على نازك الملائكة. لكن لم تتواصل تلك المعرفة في معالجة النصوص التي ستشهد انتشاراً أكبر بعد نحو عقدين. كانت خالدة سعيد تعرف ما هي قصيدة النثر وحاولت أن توضح ذلك لنازك الملائكة، غير أن تلك المعرفة مرَّت، حتى في مجلة «شعر» مرور الكرام ولم تتحوّل معرفة شائعة.
المشكلة أن الساحة الشعرية العربية اعتبرت أن قصيدة النثر هي كلّ شكل شعري متحرّر من الوزن والقافية بصرف النظر عن تقطيعه، أو عن شكله على الصفحة، أو قربه أو بعده من النثر نفسه. سبق لي وكتبت أكثر من مرة أن أي طالب ثانوي أوروبي يدرس الشعر يعرف الفرق بين
القصيدة الحرة
(free verse)
وقصيدة النثر
prose poem
من مجرد الشكل. هذا الشكل، أي الكتلة النثرية العريضة، ليس عشوائيًا، ولا هو مجرد شكل فقط، إنه في الوقت نفسه مضمون، أقصد أنه نثر. هذا الشكل هو الذي يحدِّد، من مجرد النظرة العابرة، انتماءها الى النثر. فهي جنس أدبي خاص. ليست قصيدة متفرعة من القصيدة الحرة. هذا هو واقعها في الشعريات التي ولدت فيها، وهذا ما ساجل به، مثلاً، عبد القادر الجنابي في أكثر من كتاب له، وما شارك فيه كاتب هذه السطور من نقاشات، حتى إني اعتبرت كتابي «حياة كسرد متقطع» يقع، عملياً، في قلب هذا السجال الذي لا يني، على ما يبدو، يتجدد، كلما عدنا الى الحديث عن الشعر العربي الحديث. ما زلنا نسمع، ونقرأ، الطبيعة الاحتجاجية لمن يرفض الكلام عن «قواعد»، أياً كان شكلها، لقصيدة النثر. المطالبة بالحرية في الكتابة لا يعني رفض القاعدة. اللغة نفسها تحكمها قواعد وبهذه القواعد تكتب كلامك عن الحرية بل وتطالب بها على نحو مطلق! من هذا المنطلق تسمع، أو تقرأ، احتجاجاً يصل حد الندب عن «إقصاء» محمد الماغوط من قصيدة النثر. كيف نفعل ذلك وهو يكتب قصيدة لا وزن فيها ولا قافية؟ فأيُّ قصيدة، إذن، هي قصيدته؟ لا أحد يقصي الماغوط من قصيدة النثر، لأنه لم يدخلها أصلاً، هو رائد أول، في نظري، لما كان ينبغي أن تكون عليه القصيدة الحرّة . لذلك آمل أن تلتقط الجامعات العربية هذا النقاش وتعتبره جزءاً من درسها الشعري الأكاديمي لكي لا تظل نقاشاتنا تدور في الصحف والمجلات فقط.. ووسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام.
*نقلا عن موقع ضفة ثالثة