«رشا»

رشيدة محداد

همس لها متسائلا
-من كان يهتم بك ..بغيابي..؟
-الكتابة!
-هنيئا لها..!
استطرد متسائلا:
-من فيكما كانت تدلل الأخرى ..؟ كنت أمها ؟..أم كانت أمك..!
-بالتأكيد هي..الكتابة..!دللتني كثيرا، كانت أمي ! كنت أصرخ من حمى الأرض، فتمرر على جبيني منشفة حروف باردة، تضم آهاتي لصدرها، فأتماثل للشفاء تنهدت ثم استأنفت الحديث: أنا حرف برأسي، حين تخلو مني الأذان، أكتبني بورق يسمع، يجيب، ويحترم آداب الحديث .كانت لدي صديقة اسمها «رباب» تعارفنا بنادي الرياضة، وتطورت صداقتنا، فأصبحت تتردد على بيتي، نتسامر ليلا، ونزاول رياضة المشي صباحا، ونشرب الشاي بفناء البيت مساء. نمرح كثيرا.. ونثرثر طويلا.! كانت تعدني أننا لن نفترق ..لم أكن بحاجة إلى كتاب، ولا موسيقى، لم أكن بحاجة إلى السفر، فبقصصها كان يلذ الترحال ..ويحلو النغم!
استفقت يوما على صدمة غيابها أتعلم.. ؟ اكتشفت فيما بعد، أنها مساعدة اجتماعية، واخصائية نفسية، خصصت بأجندتها أسبوعان لي..وآخر لغيري! هي كانت تؤدي واجبها لا غير، وانتهى عملها..بظرف أسبوعين كتبت لها كثيرا، وثرثرت طويلا …فلم تجبني..! لم تكن تسمعني، ولم يكن لديها وقت لتحتويني وتفاهاتي، ومهاثراتي..وكأنني سمعت إصفاق الباب بوجهي، حين تركت لها رسالة بهاتفها، ولم تجبني…قد تكون مشغولة، قد تكون نائمة..قد……………. من يومها، وأنا أقتني الكتب، أقرؤها وأحتفظ بها بخزانتي..وأكتب..أكتب كثيرا…! وأثرثر كالعجوز بين السطور لا أتحدث كثيرا، وأكتب كثيرا حتى بمنامي.
حين أستكين لوسادتي، أجدني أكتب أروع الأشياء حتى أفضل من صباحاتي، وحين أستيقظ، أكون قد خرجت من رأسي، وتركت الأجمل هناك، وتمنيت لو كان بالحلم قلما !
الكتابة..صديقتي التي عودتني، أن تجلس باهتمام، كي تسمعني ..فتحضنني رفعت «رشا» رأسها باتجاه مخاطبها، لتصطدم بظلها، يقلدها بحائط الغرفة الصامتة !
أكانت تكلم نفسها طوال الوقت !
عادت لها هلوسة الليل، كلما اختلت بنفسها .
تلك حالتها منذ سبع سنوات، منذ التحاقها بدار الأيتام، بعد وفاة أسرتها إثر انهيار البيت الجديد ..فقدت أسرتها بأقل من خمسة دقائق.. غادرت البيت لجلب الحليب لأختها الصغيرة، من صيدلية الحي، لتتفاجأ بمطر غزير، غسل وجه الحي المتسخ، وأصوات عويل، تنبؤها أن يد المطر، ضربت على يد مشيدي البنايات المغشوشة، مؤنبة موبخة، فأبانت عن ثغرات دفع ثمنها، أسرتها الصغيرة أخذها أحد الجيران لدار الأيتام، بعد أن تنكرت لها عائلتها.تركت هواياتها هناك، بقلب النادي، وبقلب بيت كبرت فيه أحلام لم يكتب لها رؤية النور كان يزورها جارهم الوحيد «إبراهيم» الذي أودعها بالدار، وزوجته كل يوم جمعة، يأتيانها محملين بثياب جديدة، وأحذية، وبعض الشكولاتة والحلوى، وصور لاعبي التنس المفضلين عندها، وطبق كسكس، ب «سبع خضاري» و»التفاية» و «البيض» واللوز ..تماما كما طبق والدتها، كانت تطلق عليها اسم الفنانة «الشعيبية» كلما رأت ذاك الطبق المزركش، المتجانس ألوانا، كما لوحة فنان.بزيارتهما تشتم عبق الحي، والبيت، ورائحة أسرتها. كانت زوجة إبراهيم تضمها إلى صدرها، وتتمنى لو ضمتها إلى بقية أولادها، لكن «الغالب الله»، فعمل زوجها على قد الحال يكفيها أن تستقي من الحنان ساعة جمعة ، وباقي الأيام تقضيها مع الممرضة حنان، تلك التي كانت تزورها كل مساء، بحقنة استرخاء، كلما صرخت بالأطباء تطالبهم بأسرتها ساعة من الزمن، تسافر فيها إلى حياتها وأحلامها المسروقة،من مطر «العشاق» كما يصنفــه الشعــراء ..ولو رأوه بعين ســاكني الأحيــاء المهترئة، لأسموه «سارق الأحلام»..
مر ما يقارب السنة على تردد الجار وزوجته عليها، إلى أن انقطعت زيارتهما ،لأسباب لا زالت تجهلها ..ربما أخذهما المطر كما كل هطول ورباب !صديقتها، لم اختفت أيضا، ولم اختفت الممرضة «حنان» ..لم يختف الطيبون ويبقى المطر !؟
استغفرت الله وتناولت منديلا ورقيا من العلبة، ومسحت العرق المتصبب من جبينها، ثم اختفت تحت اللحاف..وبكت كثيرا……كثيرا …..!هي تحب الثرثرة..حتى بالبكاء!
وبالحلم، جلست القرفصاء، تنظف سريرها الصامت، من مداد الأقلام الملونة، نسيت أن درجة الاحتفاظ بالأشياء، داخل الجيوب، تردي الانتظار فيضانا ملطخا
حشت وسادتها قطع إسفنج، وعوض أن تمتص واقعها، نفثت برأسها،حمى وسائد.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة