جرجيس كوليزادة
مشتركات كثيرة جغرافية واقتصادية واجتماعية وثقافية تربط بين شعوب منطقة الشرق الاوسط من العرب والكرد والترك والفرس، ولكن أهم ما يميز الشعب الكردي عبر التاريخ هو عدم قيامه بالغزو والاعتداء على الاخرين وعلى جيرانهم بينما الاخرون تميزوا بها، وبنوا دولهم من خلال نهب حقوق الاخرين، اضافة الى ان الكرد تميزوا بشجاعة وقدرة قتالية عالية كمقاتلين ومحاربين بواسل، ولا يخفى ان ممالك استفادت منهم في قيام دولها على سواعد الكرد مثل الدولة العباسية والدولة العثمانية والدولة الصفوية، وفي التاريخ الحديث استفادت تركيا والعراق وسوريا منهم في بدايات تأسيسها مقابل وعود اعطيت لهم، ولكن بعدها بسنوات قليلة نكثت بالوعود وحرموا من ابسط الحقوق الانسانية والقومية والثقافية، وبدلا من الوفاء لهم تعرض الكرد الى مآس انسانية كبيرة.
وخلال الاحداث الاقليمية والدولية التي مر بها الشرق الاوسط في العقود الاخيرة برزت تغييرات كثيرة في حياة مجتمعات ودول المنطقة، والاغلب منها خرجت بمأسي ومعاناة وكوارث وحروب مسببة الدمار والنزيف الدموي المتواصل لابناء شعوب عديدة، واشد ما تعرضت لها هي الابادات الجماعية العديدة التي حصلت على مر العقود والسنوات ضد الكرد والمسيحيين والايزيديين وضد بعض المكونات السنية والشيعية في بلدان المنطقة وخاصة في العراق وسوريا وبالأخص في السنوات الاخيرة.
وبالرغم من سقوط نظام البعث في العراق الذي حاول ابادة الكرد، وتمايل نظام الحكم في سوريا نحو السقوط، وظهور الكرد كقوة اقليمية ومحلية لا يستهان بها خاصة خلال تصديها الشجاع من خلال البيشمركة والشرفانان والكاريلا ضد قوات تنظيم داعش الارهابي وبالتعاون مع التحالف الدولي برئاسة الولايات المتحدة، الا ان ما حصل من تأييد دولي كبير للكرد يقرأ منه اهتماما غير اعتيادي بهم وربما احتمال اعادة لقراءة خرائط المنطقة بسبب الظلم التاريخي الذي تعرض له الاكراد في فترة انهيار الدولة العثمانية.
وبرغم مرور ثلاثة عقود على نهضة الحركة التحررية الكردية في تركيا الا ان أنظمة الحكم التي تعاقبت على انقرة لم تبد اطلاقا اية مرونة او تعاملا مدنيا وعقلانيا معها، وخاصة في السنوات الاخيرة تجاه الجناح المسلح الثوري الممثل بحزب العمال الكردستاني، ولا تجاه الجناح المدني السياسي الممثل بحزب الشعوب الديمقراطية الذي يضم تحت لوائه بعض المكونات القومية غير الكردية، وكذلك فان حكومة انقرة الاردوغانية وحزب العدالة والتنمية وخلال السنوات الماضية لم تستغل ظروق المنطقة وتغييراتها السياسية الدراماتيكية واجواء العولمة والتزامات احترام ورعاية الاعلان العالمي واللوائح الدولية الأممية لحقوق الانسان للتعامل بمسؤولية الدولة تجاه كرد تركيا، وعلى العكس من ذلك بادرت الى اعلان حرب شعواء على المدن والقصبات والقرى الكردية بحجة محاربة الارهاب والكرد بريئون منها.
ويبدو ان السيد رجب طيب اردوغان ومن خلال تواصل نجاحاته السياسية والحزبية المستمرة طوال العقدين الماضيين، وعلى مستوى حزب العدالة والحكومة والرئاسة، تمكن من ارساء افكاره ومخططاته وطموحاته في قيادة تركيا بنجاح فائق، ولكن في السنوات الاخيرة ومع بدايات بروز الثورة الشعبية في سوريا حاول السيد اردوغان التدخل في شؤون المنطقة بغية تحقيق احلام اخرى فسر انها عثمانية من خلال التوسع وفرض النفوذ والتواجد العسكري على مناطق معينة في سوريا والعراق، مثل اقليم كردستان وبعض اطراف المعارضة السورية، ولكن مسعاه لم يحقق الاهداف فرد عليه بابداء تعارض وتطرف شديد تجاه قضية الحقوق المدنية و القومية والانسانية للشعب الكردي في تركيا وسوريا.
والطامة الكبرى ان السيد اردوغان وحكومته وحزبه أبدوا عنصرية عمياء تجاه الكرد، وبدلا من ان يستغل الأكراد ويقيم معهم تحالفا عسكريا استراتيجيا لصالح تركيا والمنطقة، تفرد بالانفرادية القاتلة واختار خيار الحرب مع حزب العمال الكردستاني ومع روزافا من دون سبب اخلاقي او عقلاني او منطقي، ونتيجة لهذا تحولت تركيا الى ساحة صراعات لا تعرف نهايتها من بدايتها، وبدلا من ارساء السلام بين الكرد وأنقرة وبين تركيا وروزافا قام اردوغان بفرض سياسة عير انسانية تجاههم وفرض حربا شرسة تحولت الى مطحنة تستنزف قدرات كل الاطراف على حساب الانسان والانسانية وحق الحياة والكرامة ومستقبل الاجيال.
وكذلك بدلا من ان يستغل السيد اردوغان العلاقة الايجابية بين الولايات المتحدة وكرد روزافا وكرد الاقليم لاقامة تحالف استراتيجي برعاية اميركية تخدم كل شعوب المنطقة، وتسهم بفعالية في القضاء على القوى والمنظمات الارهابية الاسلامية، بدلا من ذلك تحول الى طرف يسعى بكل قوة الى تخريب العلاقة الطيبة بين واشنطن واكراد سوريا.
وبالتوازي مع هذا الدور سبب السيد اردوغان ازعاجاً كبيرًا لواشنطن، والاخيرة تدرك تماماً ان الرئيس التركي يقف من دون مبرر في مواجهة التطلعات المدنية والحقوقية لمواطني الدولة التركية من الكرد، ويفرض من دون منطق مجابهة عسكرية انتقامية على قيادات وانصار حزب الشعوب الديمقراطية زاجا بالبرلمانيين والقادة المدنيين في السجون من خلال فرض سياسة رعب الدولة، ويبدي اصراراً متواصلا في استنزاف تركيا من خلال مقاتلة حزب العمال رافضا اللجوء الى الحوار والتفاوض والجلوس على مائدة السلام.
ولكن مع هذا التشاؤم نبين ان السيد أردوغان امامه فرصة تاريخية لجلب الاستقرار والامن الى المنطقة، وذلك بالتقارب مع الاكراد وحل قضية الحقوق مع حكومة انقرة، والتعامل بدبلوماسية جديدة مرنة مع روزافا مبنية على ضمان السلام واحترام الخيار والقرار الكردي في سوريا، وتوازياً مع هذا التحول ان حصل يمكن لاردوغان ان يتبنى فكرة تشكيل حلف ثلاثي استراتيجي بين الولايات المتحدة وتركيا والكرد استنادا الى ميثاق تحالف لصالح الاطراف الثلاثة، وبذلك ستتفادى تركيا والكرد والمنطقة الكثير من المخاطر المستقبلية التي قد تتعرض لها، وسيحظى هذا التحالف بدعم اوربي كامل لانه يخدم المصالح الاوروبية ويخدم السلام في العالم وفي منطقة الشرق الاوسط، وسيكون عاملا حاسما في القضاء على الحركات الدينية الارهابية المتطرفة في المنطقة، وفي حال تحقق هذا التحالف ستنعم تركيا واقليم كردستان واقليم روزافا بواقع سياسي منعم بسلام شامل وتطور وازدهار اقتصادي وتنموي يخدم كل شعوب ودول المنطقة، وفي الختام لا يسعني الا ان أذكر رئيس تركيا السيد رجب طيب أردوغان بقول الله تعالى من باب المجادلة الانسانية والنية الحسنة والتمنيات الطيبة «فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا» واالله من وراء القصد.
*كاتب من إقليم كردستان.