بيتر شوارتزستين
منذ ظهور تنظيم داعش الإرهابي في الفلوجة واستيلائهم على سد المدينة في مطلع العام 2014، انتاب محمد أمين قلق كبير؛ كونه مزارعاً يعتمد بدرجة كبيرة على شبكة من القنوات المائية التي تتدفق شرقاً من نهر الفرات، إذ عَلِم أمين مدى سهولة قيام أفراد داعش بتخريب محاصيله، وحينما قام التنظيم بإغلاق سد الفلوجة في شهر آب أدى ذلك إلى غمر جزء كبير من الحزام الزراعي في بغداد، وعرقل تقدم الجيش العراقي، وكان أمين مستعداً بنحوٍ أفضل من غيره، إذ يقول: “حافظت على البذور، والأسمدة ووضعتها في مكان مرتفع، كان لدي شعور بأن ذلك سيحدث”.
ولكن ما لم يعلمه هو والمزارعون الآخرون -الذين يعملون في أرض كانت سجناً أميركياً سابقاً- هي الأضرار البيئية طويلة الأجل التي قد يلحقها التنظيم بالمنطقة، إذ بعد هزيمته بالفلوجة في آيار عام 2016 قام داعش بتفجير 6 بوابات للسد من أصل 10؛ الأمر الذي أجبر المسؤولين على قطع تدفق المياه إلى القنوات، وبعد 9 أشهر أصبحت أجزاءٌ من محافظة الأنبار -التي ما تزال من دون مياه- جافةً تماماً، وهنا قال المزارع أمين: “هناك مياه قذرة وقليلة، وقنوات مياه سيئة.. كنا نظن أننا مررنا بالأسوأ، إن الكارثة الكبرى الآن -التي سببها لنا أولئك المجرمون- هي انعدام المياه تماماً”.
ركزت العديد من التقارير حول داعش على الخسائر البشرية لعملياته الإرهابية؛ إلّا أنَّ نهريّ العراق قد تضررا بنحو بالغ أيضاً، ومن المرجح أن تستمر الأضرار إلى ما بعد هزيمة التنظيم، فقد تلوث نهرا دجلة والفرات –اللذان يعانيان من عدة مشكلات بالفعل- بسبب الجثث التي تم إلقاؤها فيهما، ومخلفات الذخائر، ومياه البنية التحتية الملوثة على مدى السنوات الثلاث الماضية، فبالنسبة لبلد يعتمد على هذه الممرات المائية الرئيسة لري أكثر من 80% من مزارعها، فإن تلك الأضرار التي يعاني منها النهران دفعت المزارعين العراقيين إلى حافة الهاوية، وقد قال وزير الموارد المائية العراقي الدكتور حسن الجنابي: “إن الشعب قد نجا ولكن من دون مياه، وبوجود جميع تلك الأضرار ما زال الشعب يعاني؛ فقد تم استغلال المياه كسلاح لأقصى مدى”.
بدأ الدمار بعد استيلاء تنظيم داعش على أجزاء من أودية النهرين في صيف عام 2014، حينما سيطر على أعمال الري في الفلوجة والرمادي وسوريا، إذ زعم أحد أفراده -الذي كان يعمل مهندس ريّ في السودان- بأنه من دبر لمؤامرة إغراق 200 كيلومتر مربع للحقول التي تقع بين نهر الفرات وبغداد.
قام تنظيم داعش بتدمير محاصيل يُقدّر ثمنها بمئات الملايين من الدولارات، واستعمل نهر دجلة كمقبرة جماعية، إذ تم إلقاء جثث ما لا يقل عن 100 من أصل 1700 طالب في الجيش العراقي من الذين أعدموا في معسكر سبايكر في حزيران عام 2014، فقد بلّغ الصيادون في شمال سامراء عن وجود جثث كانت قد علقت في شباكهم في أثناء اصطيادهم للأسماك.
ازداد الضرر سوءاً مع مرور الوقت؛ فبينما كان داعش يُهزَم في منطقة تلو الأخرى، قام مقاتلوه بإحراق جميع القرى التي مروا بها في تراجعهم، متبعين بذلك تكتيك الأرض المحروقة، وقاموا بتفجير الجسور، وزرع الألغام بين أنقاض محطات ضخ المياه، وأحدثوا ثقوباً كبيرةً في قناة المياه التي ترتبط بين منطقة الدبس في كركوك إلى طوزخرماتو في صلاح الدين؛ مما اسهم في تراجع إنتاج القمح في محافظة كركوك بنسبة 80% منذ عام 2014، وحينما سيطرت القوات العراقية والتحالف على عدة مناطق في الموصل، قام مقاتلو التنظيم بإشعال العشرات من آبار النفط في القيارة، وتشير الصور التي التقطتها الأقمار الاصطناعية إلى أن مخلفات بعض تلك الآبار قد تسربت إلى أحد الخطوط الفرعية لنهر دجلة.
مستقبل مظلم
قال مسؤولون عراقيون إن هذه الأضرار الناجمة عن الحرب إذا كانت مرتبطة بالمياه فقط، فإن الوضع قد يكون قابلاً للحل؛ إلّا أن ظهور داعش أضاف مجموعة كبيرة من الأضرار إلى تلك المشكلات العالقة مسبقاً؛ فقد قامت تركيا وإيران ببناء العشرات من السدود في أحواض دجلة والفرات على مدى العقود القليلة الماضية، ومع انشغال بغداد في التصدي لداعش، يبدو أنهما بدأتا بمنع تدفق المياه بنحوٍ أكبر منذ عام 2014، وعلى وفق تقرير أصدره مجموعة من دعاة حفظ الطبيعة في المنظمة المحلية غير الحكومية “طبيعة العراق” تمت الإشارة فيه إلى أن أنقرة تسمح بتدفق المياه عبر حدودها بأقل من ربع التدفق المعتاد في نهر الفرات، فضلاً عن قيام إيران بقطع تدفق مياه نهر كارون بنحوٍ كامل الذي كان يصب نحو 5 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً في شط العرب -الذي يتكون من تلاقي نهري دجلة والفرات جنوبي العراق-، إذ يقول وزير الموارد المائية حسن الجنابي: “كانت جميع مياه النهر تصل إلى العراق حتى أواخر السبعينيات، لكن الأمور قد تغيرت وسيصعب الحصول على كل شيء مرة أخرى”. فضلاً عن كل ما ذكر آنفاً؛ تراجعت حصة وزارة الموارد المائية من صندوق الاستثمار الرأسمالي من 1.7 مليار دولار في عام 2013 إلى 90 مليون دولار في العام الماضي؛ مما يجعلها غير قادرة على تلبية العديد من مهامها المتعلقة بصيانة البنية التحتية.
يتزايد اعتماد العراق على نهري دجلة والفرات في كل عام على الرغم من المخاوف بشأن مستقبل النهرين، وقد دفعت الأمطار المتساقطة في كردستان ونينوى -وهي الأجزاء الوحيدة من البلاد التي استطاعت الحفاظ على محاصيلها من الجفاف نتيجة الزراعة البعلية التي تعتمد على مياه الأمطار- المزارعين في تلك المناطق إلى إنشاء شبكات ري محلية؛ مما زاد العبء على النهرين، فقد قال وزير الزراعة فلاح الزيدان إن أقل من 60% من المزارعين في إقليم كردستان يحصلون على كمية مياه كافية لأراضيهم، فهو يعتقد أن هذا العدد من الممكن أن يزداد مع تغير المناخ وتساقط مزيد من الأمطار.
حاول بعض المزارعين التكيف مع الظروف الصعبة من خلال وضع أقمشة شمعية على المساحات المائية القريبة من قنوات الري للحد من التبخر، أو عن طريق حفر آبار غير قانونية خاصة بهم.
أمّا في الأهوار جنوب العراق -حيث تبلغ مستويات المياه نحو نصف متوسط مستوياتها التأريخية- فقد انخفضت أجور مربي الماشية (الجواميس) بنحوٍ حاد؛ إذ تسببت المياه المالحة بتراجع إنتاج الحليب، في حين يقول صائدو الأسماك إن نسبة الصيد قد تراجعت بنحو 60% بين عامي 1981 و2001؛ الأمر الذي أجبر العديد من سكان المنطقة إلى مغادرتها حينما قام صدام حسين بتجفيف الأهوار في التسعينيات، وبعد عام 2003 تسببت الحالة السيئة للمجاري المائية باستحالة رجوع الحياة في تلك المنطقة.
حاول المسؤولون في بغداد تقديم مبالغ يسيرة للمزارعين؛ إذ قدموا أموالاً لمساعدة رعاة الماشية في بناء بركة للمياه العذبة لحيواناتهم؛ غير أن إعادة بناء البنية التحتية المدَمرة للمياه والتخفيف من آثار تغير المناخ سيكلف المليارات من الدولارات التي لا تمتلكها السلطة المعتمدة على النفط، وقد يقوم المانحون الأجانب بتقديم المساعدة في تحسين البنية التحتية حينما تنتهي الحرب مع داعش، إلّا أن منظمات المساعدات الدولية تكافح من أجل الحصول على الأموال لدعم الملايين من النازحين العراقيين، وفي الوقت نفسه تقترب تركيا من الانتهاء من بناء سد إليسو الكبير الذي يهدد بانخفاض تدفق مياه نهر دجلة بنحوٍ حاد لكي يتم ملء خزانها.
لطالما ارتبطت حظوظ العراق -على مرِّ التأريخ- مع نهري دجلة والفرات، إذ من خلالهما ظهرت حضارة السومريين -واحدة من الحضارات العريقة الأولى في التأريخ-، وبما أن البلد ينتقل من أزمة إلى ازمة أخرى يبدو أنه من المناسب -بنحوٍ مأساوي- أن يتشارك النهران تلك الصراعات أيضاً.