يقظة باردة كالماء

سركون بولص
(2-2)
ناجح المعموري

طبعاً لن يذهب خطاف نظيف كهذا إلا إلى نهر ويغني هناك مدهوشاً بالمــــــاء / ص119 }. خدش القاص المقدس ، ويبدو بأن أساطير هذا الطائر معروفة بشكل واسع ، وخصوصاً تلك المرتبطة بلونه ، حيث صار رمزاً ومقدساً لدى الشيعة في العراق ، وتوفر له فرص العودة إلى عشه الذي غادره عائداً ، حيث يأتي إليه في العام القادم . وللون الأسود ارتباط بأسطورة المقدس . حيث اعتبرته جماعات واسعة في الوسط والجنوب مقدساً وأطلقت النسوة على أنثى الطائر صفة { العلوية }لذا اخترق القاص المقدس ، مثلما حصل في قصة الملجأ بخصوص يسوع ، وهذا الموقف يتماها مع ثقافة القاص ومواقفه الفكرية ، وتمثل الاختراق وتفكيك أسطورة المقدس مع هذا الطائر ، جعله يبني عشاً له في المراحيض ، ومرة رآه الراوي يحلق فوق فوهة المرحاض ، وحتى يؤسس سركون لانتقاله سردية لاحقة ، لها علاقة بالخطاف وتناظره مع أدمون دلالياً ، لأنهما كما قلت هربا واتجها نحو مكان آخر ، والراوي ميال للتنزه أكثر من رغبته لمشاركة أدمون لمشاهدة فيلم صباحي ، لأني اعتقد بأن أدمون كما تفضي له القصة أراد الذهاب للسينما ليشاهد قصة // حكاية ليست حقيقية ، تساعده للهروب مما هو فيه ، ويتقمص شخصاً من شخصيات القصة السينمائية ويكون شخصاً جديداً ، حتى ولو مؤقتاً . لكن الصديق / الراوي حسم الأمر والتوجه للتنزه وكسر رغبة أدمون بمشاهدة فيلم صباحي وتكرر رغبة الصباح مرة ثانية أو كان البحار في قصة (الضوء ضعيف في السادسة ) راغباً في مضاجعة بغي صباحاً ، واعتقد بأن الرغبة الصباحية لمشاهدة فيلم ، أو مضاجعة بغي تعني محاولة لابتداء حياة في يوم كان الصباح مفتاحاً لها وأراد أن يمارس فعلاً إمتاعي في المشاهدة أو الاتصال ، وكلاهما يعينان نوعاً من التبادل والتراسل مع الآخر والاتصال معه.
قال الراوي وهما يتجهان للنهر :
– أنت أيضاً كنت تبكي البارحة
– متى ؟
– البارحة
ورأيت وجهه يزوغ عني – لا تراوغ ، في الليل /
***
ورأيت في عينيه ازدراء فجائياً لشيء ما ، وفي أثناء النزهة استعدت صورة وجهه وهو ينتحب في الليلة الماضية ، وظهر غريباً الآن عن ذلك ، وكأنه شيء لم يحدث / ص121 . وعبر أدمون بحواره مع صاحب المقهى الذي بكى أمام الحضور عن تضامن معه ، لأنه يعرف جيداً بأن سبباً خفياً وراء بكاء الرجل ، مثلما حصل معه ، لمن سبب بكاء أدمون ليلاً حياتي واجتماعي ، له علاقة بالموقف من الآخرين الذين معه في البيت وأعني بهم العائلة ، وربما غيرها وأيضاً هروبه من مدينته ، لكن لماذا بكى صاحب المقهى ؟ هذا ما لم تومئ القصة ولكن سؤالي ، هل كان للخطاف دلالة ما ـ أيضاً – مع الرجل ؟ هذا أمر تقترحه القراءة سؤالاً ، وتكتمت عليه القصة ، ولم تفصح عنه . ولكن مفردة واحدة ستساعد على معرفة لا تعلن صراحة ، بل تساعد على اقتراح فقط ، وهذه المفردة :
– ضحك الرجل ضحكة يائسة مليئة بكبرياء شعبية ، وقال مازحاً وهو يشرق بدموعه الشريفة . والمفردة هي كلمة ( الشريفة ) المتآزرة مع ( بكبرياء شعبية ) وتفيدنا بأن صاحب المقهى يبكي خسارة لها تأثير قوي في حياته ، خسارة من نوع لا يمكنه الإفصاح عنها . أنه بكاء الكرامة والاعتداد بالنفس .
واقترب أدمون من النهر ونزل أخيراً إلى حافة الماء وتبعته
– لنصعد على القارب
كانت هناك صقالة تؤدي إلى قارب كبير يشبه التابوت
– أدمون أنتظر
وبلغته . كان يقف في أعلى الصقالة
– ماذا تريد أن تفعل ؟
فقال للحال كأنه كان ينتظر سؤالي
– لقد جئت هنا ليلة أمس وأضاف
– لجأت إلى القارب من المطر
وضحك متحفزاً بتحد ٍ.
– هل ستصعد ؟
وجدت نفسي أسأله بلا إرادة : – لماذا ؟ / ص122
هل كان صعود أدمون للقارب استعادة لذكرى الليلة الماضية وماذا عانى من تأزم وانخذال؟ أم إن النهر مرتبط لديه بالماء باعتباره دالاً على الحياة والانبعاث ؟ لكن ما قاله أدمون يشير للوضع الخاص الذي كأنه ولم يكن له علاقة رمزية بالتجدد ، لأنه السرد شبه الزورق بالتابوت معروف الدلالة . وهل راغباً في اللاوعي للخلاص عبر الموت لذا ظل الراوي على ضفة النهر ولم يتجز الصقالة نحو الزورق . وانشغل بمتابعة الفضاء ، متابعة معبرة عن صفاء الذهن من خلال التقاط مشاهد الجسر وسطح النهر المتألق وانعكاسات الشمس فوق الماء والجميل في معاينات الراوي ، إنها تسللت لترى تنوعات عديدة من بين قدميه المنفرجتين فوق الزورق . لكنه جمع ساقيه ( وحذف كل شيء ونظر إلي. وكان يطفو في أعلى النهر منتظراً صعودي، ولكنني لم أصعد وصحت: أنني ذاهب.
توقف عن سيره وهو يكشط سطح القارب بحذائه، وألقى بسيجارته بعيداً ، وهتف :
– إلى أين ؟ لماذا؟
فلم أحفل باضطرابه .
– إلى الغرفة . وفكرت فجأة بالخطاف ، ما الذي كان الطائر المجنون يفعله هنا في هذا الوقت ؟ / ص123 .
هنا، التماهي واضح بين أدمون والخطاف الذي وقع بمعناه على نهاية القصة . أنه – أدمون / الطائر – المجنون وهل وجوده وسط الزورق هو الصحوة أم الانتكاسة عبر دلالة التابوت المشبه له. وحلّت اليقظة على الراوي وغمرته كالماء، لذا قرر التخلص من المطر والعودة للغرفة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة