أدب الرحلات.. التغاير والمفارقة

يبدو أن أدب الرحلات سيكون أمام قراءات نقدية وتوصيفية مفارقة، ليس بسبب الطبيعة الاجناسية القارّة لهذا الأدب، بل بسبب طبيعة التغاير الحادِث في هويات وسمات الأمكنة التي تتمثلها عملية تدوين أسفار الرحّالة، بوصفها المجال المُتاح لتقصي الأحداث، وكتابة الأخبار، والاوصاف والانطباعات، وأحسب أنّ مسافرا مدهشا مثل بن بطوطة سوف لن يجد تلك الأمكنة/ المدن التي زارها، ولا حتى الممرات الآمنة إليها، والصالحة لتدوين نصوص مشاهداته، ولا حتى للتعاطي مع أنثربولوجيات الناس الذين تمر بهم ركائبه..
أدب الرحلات كما تقول سردياته: يدفع للكشف، والبحث، وأحيانا التحقق من أحداث أو تواريخ، والتعرّف على أحوال الناس وشؤونهم وأغراضهم ومصالحهم وتنوّع ألسنتهم وعباداتهم وطقوسهم، وأحيانا طلب المعرفة أو الحماية، أو حتى إقامة الصلة بوصفها السياسي/ الدبلوماسي أو الثقافي على طريقة أحمد بن فضلان..
مايجري اليوم في مدن العروبة بشكلٍ خاص يدفع الى ضرورة إعادة قراءة هذا الأدب، وتغيير زاوية النظر للسياق الذي يشتغل فيه، وربما الى تغيير طبيعيته، ليكون نوعا من الأدب الذي يشمل تدوين أسفارا متخيلة، أو حتى الأسفار بالمعنى الحديث، عبر تقانات الطائرات أو القطارات، وهو ما يعني كتابة(نص الأسفار السريعة) تلك التي تؤسس معلوماتها على ما تتيحه خرائط المدن التي ترسمها الجهات البلدية، وتخضع بالمقابل الى رقابة الجهات الأمنية، خشية أنْ تكون الكتابة عن المدن، والجماعات والثقافات والعادات نوعا من العمل الجاسوسي، أو تدوين معلومات ذات بعد جيوسياسي… الذهاب الى مدن الشرق لم يعد مُباحا، أوسهلا، إذ تحولت هذه المدن الى أماكن للعنف والاحتلال والحروب، وحدودها ومطاراتها تحولت الى أمكنة تفتيشٍ وشُبهات، فيها كثير من الرقابة والتلصص، وحتى السفر الى مدن الغرب صار بلا طعم، لأنّ المرء سيكون فيها مشكوكا بأمره، وخاضعا للتفتيش والمتابعة، وربما ستكون كتبه، وأدوات سفره هي الأخرى في دائرة الشك أيضا، لأنها قد تُقرأ بوصفها منشورات ارهابية، أو بيانات للعنف والأيديولوجيا وللتعصب، أو قد تؤوّل على وفق منطقة(الضرورة الأمنية)
من هنا، فإنّ أدب الرحلات سيكون أمام رهان واقعي، وحقيقي، إذ سيتعلق الأمر بتوصيفه، وبوظيفته، وبخصوصيته الاجناسية في مشاهدة الوقائع، وتدوين الأحداث، والتعرّف على أسرار الطرق والأمكنة والمعابر، وما يعيشه الناس من يوميات وعلائق وحاجات ومصالح..
التغاير في هوية هذا الأدب سيضع المشتغلين به في سياق البحث عن رحلات أخرى، يمكن أنْ تكون رحلات وأسفار وسير وجدانية، مثلما ستكون قصدية من خلال المشاركة في برامج ومشاريع ستراتيجية تقوم بها مراكز خاصة بالدراسات الأنثربولوجية، والتي تنظّم سفرات محمية من الجهات الرسمية، وحصر غايتها بالدرس، وهو مانراه في العديد من الدراسات والرسائل والأطاريح، وحتى في ورشات العمل التي تنظّمها تلك الجهات، فضلا عن مايقوم به البعض من خلال تدوين المشاهدات في السفرات الشخصية، والتي كثيرا ماتكون محدودة، ومختصرة على أمكنة معينة، وحتى محدودة الزمن المُتاح لكاتب هذه الرحلة أو تلك..
علي حسن الفواز

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة