الماضي

لا اعرف وصفة ناجعة لتنسيق الماضي. اعرف ان ثمة في الماضي بقع ضوء كثيرة بجانب بربريات كثيرة. واعرف ان موقفين متطرفين يطرحان نفسهما على طاولة الحوار حول الماضي (التاريخ) دائماً: الاول يحضّ على طيّ الماضي تماماً بوصفه كابوساً، او عائقًا، والآخر يدعو الى الاقامة فيه ابدا بوصفه ملاذاً او ضرورة.. تلك هي المشكلة التي تواجه ضمائرنا التي توخزها الاعمال الدنيئة التي ارتكبت باسمنا في معابر خطيرة للتاريخ، وتعترض مستقبلنا الذي نحتاج الى توطيد مسبقاته الرصينة والانسانية..
في ولعي بقراءة تجارب الاخرين ذات الصلة بهذا الموضع، عثرت على رسالة كان قد بعث بها الشاعر والروائي الالماني، ذائع الصيت «غونتر غراس» الى الكاتب الياباني الاكثر شهرة في بلاده والعالم «كينزابرو- أوي» ويتطرق منها الى الموقف من ماضي بلديهما، اللذين يتشابهان في مسؤولية إشعال حروب التوسع والعنصرية قبل انكفائهما الى الهزيمة النكراء.. يقول غراس:
«عزيزي أوي.. قد يحدث لك الشيء نفسه: تتدفق الطلبات من جميع الجهات راجية أن أبجل، بكلمات أو بنص طويل، تلك التواريخ التي شهدت منذ خمسين سنة كيف انتهت الحرب العالمية الثانية باستسلام لا مشروط لألمانيا أولاً ولليابان ثانياً. وبما أنني لا أحب أن تكون ردود فعلي تلبية لطلبات متعلقة بأحداث الساعة، فقد ارتأيت أن أكتب اليك، لأنك مثلي، فأنت من الجيل الذي عاش الحرب في سن الطفولة والمراهقة ودمغتنا منذ أبكر سني الصبا. ومن عقد الى عقد، أصبحنا نحن الاثنين، ندرك أكثر بأن الجرائم التي ارتكبها الألمان واليابانيون تلقي ظلالا بعيدة المدى.
بودي أن أعرف كيف يتعامل الجمهور عندكم في اليابان، مع الماضي. ما الفوائد التي نجدها، عندكم، وراء مطلب – وهو غالباً مطلب عدواني عندنا في ألمانيا- أن توضع نقطة الختام النهائية على هذا الجدل.. فمن الذي يعارض، عندكم في اليابان، فكرة تنسيق الماضي بأقصى سرعة ووضعه في أرشيفات التاريخ؟
في ألمانيا الآن نقاش ساذج: هل ينبغي الإحتفال بالثامن من أيار بصفته تاريخ انتهاء الحرب ام بصفته يوم التحرير: أذكر أننا- في السنوات الأول لما بعد الحرب- كنا نتكلم بمراوغة عن «الاندحار» إندحار المانيا، وكنا نريد تحويل نهاية الرعب التي لم تتحقق إلا بقوة السلاح الى «ساعة الصفر» كما لو أنه كان بمقدورنا الاستئناف مجددا كوردة غضة، وكما لو أنه كان بإمكاننا الخروج من كل هذا بلا عقاب أو عاقبة. من المؤكد أن السؤال غير معقول. صحيح أن ألمانيا واليابان بلدان غنيان، لكن «خزينتهما» الثقافية أصيبت بفقر شديد. وحتى الآن لم يتجاوزا الانقطاع الذي حل بحضارتيهما. وهما ما يزالان مهددين من قبل متطرفيهما،في الأقل، بالعودة مجددا الى البربرية». .
أقول، لقد عثرت على ما كنت ابحث عنه لفهم الماضي وتنسيقه وتقييمه، إذْ يمكن الاسترشاد بما كتبه غراس الى الحقيقة التالية: الماضي دروس.. وكل من يجعل منه تجربة ينبغي ان تُستعاد لا يعرف حكم عقرب الساعة..
***
بيكاسو:
«كل شيء يمكنك أَنْ تتخيله هو حقيقي بالنسبة لك»
عبدالمنعم الأعسم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة