داني رودريك
أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون كينيدي.
يبدو أن إجماعاً جديدًا استحوذ على نُخَب المال والأعمال والسياسة في العالَم اليوم حول كيفية التصدي لردود الفعِل السلبية المعادية للعولمة والتي استغلها الشعبويون من أمثال دونالد ترامب بكل اقتدار. فالآن، وَلَّت أيام التأكيدات الواثقة على أن العولمة تعود بالنفع على الجميع، والآن تعترف النخب بأننا لابد أن نتقبل حقيقة مفادها أن العولمة تنتج الفائزين والخاسرين. ولكن الاستجابة الصحيحة ليست وقف العولمة أو عكس اتجاهها؛ بل ضمان تعويض الخاسرين.
وهذا الإجماع الجديد مشروح بإيجاز في كلمات نورييل روبيني: فهو يقول: «إن ردة الفعل العنيفة ضد العولمة يمكن احتواؤها وإدارتها من خلال سياسات تستهدف تعويض العمال عن أضرارها وتكاليفها الجانبية. وفقط من خلال تفعيل هذه السياسات يبدأ الخاسرون بسبب العولمة في إدراك إمكانية انضمامهم إلى صفوف الفائزين في نهاية المطاف».
وتبدو هذه الحجة منطقية تماماً، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي. فقد عرف أهل الاقتصاد منذ مدة طويلة أن عولمة التجارة تُفضي إلى إعادة توزيع الدخول وخسائر مؤكدة لبعض المجموعات، حتى في حين تعمل على تعظيم حجم الفطيرة الاقتصادية الكلية للبلاد. وعلى هذا، تعزز الاتفاقيات التجارية الرفاهة الوطنية على نحو لا لبس فيه ولكن بقدر ما يحرص الفائزون على تعويض الخاسرين. كما يضمن التعويض دعم الجماهير الانتخابية الأعرض للانفتاح التجاري والسياسات التي ينبغي لها أن تكون جيدة.
قبل نشوء دولة الرفاهة، كان التوتر بين الانفتاح وإعادة التوزيع يُحَل إما من خلال هجرة العمال الواسعة النطاق أو عن طريق فرض تدابير الحماية التجارية، وخاصة في المجالات الزراعية. ومع ظهور دولة الرفاهة، أصبح القيد أقل إلزاما، مما سمح بالمزيد من تحرير التجارة. والدول المتقدمة التي هي الأكثر عُرضة للاقتصاد الدولي اليوم هي أيضا الدول التي توفر شبكات الأمان وبرامج الضمان الاجتماعي ــ دولة الرفاهة ــ الأوسع نطاقا والأعرض تغطية. وقد أظهرت البحوث في أوروبا أن الخاسرين بفِعل العولمة داخل الدول يميلون إلى تفضيل البرامج الاجتماعية الأكثر نشاطاً والتدخلات في سوق العمل.
وإذا لم تبرز معارضة التجارة سياسياً في أوروبا اليوم، فإن هذا يرجع جزئيا إلى أن مثل تدابير الحماية الاجتماعية هذه تظل قوية هناك، على الرغم من الضعف الذي اعتراها في السنوات الأخيرة. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن دولة الرفاهة والاقتصاد المفتوح كانا وجهين لعملة واحدة خلال القسم الأعظم من القرن العشرين.
وبالمقارنة بأغلب دول أوروبا، كانت الولايات المتحدة متأخرة في اللحاق بقطار العولمة. فحتى وقت قريب، كانت سوقها المحلية الضخمة وعزلتها الجغرافية النسبية من الأسباب التي وفرت لها قدراً كبيراً من الحماية من الواردات، وخاصة تلك القادمة من البلدان المنخفضة الأجور. كما كانت دولة الرفاهة في الولايات المتحدة ضعيفة تقليديا.
عندما بدأت الولايات المتحدة تنفتح على الواردات من المكسيك والصين وغيرهما من الدول النامية في ثمانينيات القرن العشرين، ربما كان المرء ليتوقع منها أن تسلك الطريق الذي سلكته أوروبا. ولكن بدلا من ذلك، وتحت تأثير أنصار ريجان وأفكار أصولية السوق، سلكت الولايات المتحدة الاتجاه المعاكس. وعلى حد تعبير لاري ميشيل، رئيس معهد السياسات الاقتصادية، فإن «تجاهل الخاسرين كان متعمدا». ففي عام 1981 «كان برنامج مساعدات التكيف التجاري واحداً من أول الكيانات التي هاجمها ريجان، فخفض مستحقات تعويضاته الأسبوعية».
واستمر الضرر في ظل الإدارات الديمقراطية اللاحقة. يقول ميشيل: «لو كان أنصار التجارة الحرة مهتمين حقا بالطبقة العاملة، فكان بوسعهم أن يدعموا نطاقا كاملا من السياسات الرامية إلى دعم نمو الأجور بقوة: التشغيل الكامل للعمالة، والمساومة الجماعية، ومعايير العمل العالية، والحد الأدنى القوي للأجور، وما إلى ذلك». وكان كل هذا ليتم «قبل إدارة الصدمات من خلال توسيع التجارة مع الدول المنخفضة الأجور».
ولكن هل تستطيع الولايات المتحدة الآن أن تعكس مسارها وتتبع الرأي التقليدي الناشئ حديثا؟ في عام 2007، دعا العالِم السياسي كين شيف والخبير الاقتصادي مات سلوتر إلى «صفقة جديدة من أجل العولمة» في الولايات المتحدة، صفقة من شأنها أن تربط بين «الانخراط في الاقتصاد العالمي وإعادة توزيع الدخل». وفي الولايات المتحدة، زعم الباحثان أن هذا يعني تبني نظام ضريبي فيدرالي أكثر تصاعدية.
خدم سلوتر في الإدارة الجمهورية في عهد الرئيس جورج دبليو بوش. ويشير هذا إلى استقطاب المناخ السياسي في الولايات المتحدة إلى الحد الذي بات من المستحيل معه أن نتخيل خروج مقترحات مماثلة من الدوائر الجمهورية في أيامنا هذه. وتعكس الجهود التي يبذلها ترامب وحلفاؤه في الكونجرس لإضعاف برنامج التأمين الصحي الذي رعاه الرئيس السابق باراك أوباما التزام الكونجرس بتقليص تدابير الحماية الاجتماعية وليس توسيعها.
الواقع أن إجماع اليوم على الحاجة إلى تعويض الخاسرين بسبب العولمة يفترض أن الفائزين مدفوعون بمصلحة ذاتية مستنيرة ــ مفادها أنهم يعتقدون أن الشراء من الخاسرين أمر ضروري للحفاظ على الانفتاح الاقتصادي. وقد كشفت رئاسة ترامب عن منظور بديل: فالعولمة، على الأقل بموجب تأويلها الحالي، تعمل على إمالة توازن السلطة السياسية نحو أولئك الذين يملكون المهارات والأصول المطلوبة للاستفادة من الانفتاح، وهو ما من شأنه أن يقوض أي تأثير منظم ربما خلفه الخاسرون في المقام الأول. وقد أثبت ترامب أن السخط الناشئ في مواجهة العولمة يمكن توجيهه بسهولة لخدمة أجندة مختلفة تماماً، وأكثر انسجامًا مع مصالح النخب.
تخضع سياسات التعويض دوما لمشكلة يطلق عليها أهل الاقتصاد وصف «التضارب الزمني». فقبل تبني أي سياسة جديدة ــ ولنقل إبرام اتفاقية تجارية ــ ينشأ لدى المستفيدين الحافز لبذل الوعد بالتعويض. وبمجرد إقرار هذه السياسة، يتضاءل اهتمامهم بالمتابعة، إما لأن التراجع مكلف في الإجمال أو لأن التوازن الأساسي للقوة يتحول نحوهم.
لقد حان أوان التعويض وفات. وحتى إذا كان التعويض نهجا قابلا للتطبيق قبل عقدين من الزمن، فإنه لم يعد يشكل استجابة عملية للتأثيرات الضارة التي خلفتها العولمة اليوم. ولإشراك الخاسرين، ينبغي لنا أن ننظر في تغيير قواعد العولمة ذاتها.
فات أوان تعويض الخاسرين بفعِل التجارة الحرة
التعليقات مغلقة