مداسان وما بينهما

كثيرة هي الثنائيات عند العراقيين والتي تفرز صفوفهم بين مؤيد ومتعاطف مع هذا الطرف ومعارض ومبغض للطرف الآخر، ومن الاصطفافات المستحدثة في عراق ما بعد زوال النظام المباد العام 2003، هي في الموقف من نعال أبو تحسين وهو المشهد التأريخي الذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية وهو يصفع صورة الطاغية معلناً سقوط سلطة الخوف، وقندرة مراسل البغدادية منتظر الزيدي التي رماها صوب الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في المؤتمر الذي جمعه ورئيس الوزراء العراقي آنذاك السيد نوري المالكي. المشهد الأول (نعال أبو تحسين) أثلج قلوب غالبية سكان هذا الوطن المنكوب، وأثار ضده غضب واستياء جمهور آخر ينظر لذلك المشهد من زاوية أخرى مغايرة لكل تلك المشاعر والعواطف العفوية من الفرح والبهجة بزوال سلطة العبودية والاستبداد. هذا الطرف نفسه تعاطف واحتفى بقندرة منتظر الزيدي، والتي جاءت بوصفها رداً ونوعاً من إعادة الاعتبار لتلك الصورة التي تمزقت من صفعات نعال أبو تحسين المتتالية. ما بين هذين المداسين يمكن التعرف على كثبان هائلة من التراكمات القيمية والسلوكية، لا عند أنصار كل طرف منهما وحسب بل عند جمهور المترددين بينهما أيضاً، حيث يمكن اكتشاف طيف واسع من الذين ينطبق عليهم المثل الشعبي (مضيع صول جعابه).
لسنا بصدد الحفر عميقا في تركيبة كلا الفريقين والطيف الرمادي بينهما، لكن يمكننا التعرف على الفرق الهائل بينهما من خلال العواقب التي واجهها صاحبي المداسيين. فلم يمر وقت طويل حتى وجد أبو تحسين نفسه بمواجهة الأجهزة القمعية لفلول النظام المباد، ومحاولاتها لاغتياله بعد مدة قصيرة من سقوط نظامهم الإجرامي، مما اضطره في نهاية المطاف الى ترك منطقة سكناه الى إقليم كردستان للحفاظ على حياته وحياة أسرته. أما صاحب القندرة الذي اعتقلته السلطات العراقية لبعض الوقت، فقد تم إطلاق سراحه ليستقبل استقبال الفاتحين من قبل النظام العربي الرسمي والشعبي بوصفه بطلاً لكل ذلك التراث المبجل من العبودية والاستبداد، من دون أن يلتفتوا الى مغزى الدرس الذي دونته التجربة الديمقراطية الفتية في التعاطي مع مثل هذه الحالات والسلوكيات المتنافرة لا مع ما وصل اليه التهذيب الحضاري من رقي وحسب بل مع أبسط تقاليد العرف العشائري والقبلي الذي يرددونه دائماً ومن دون كلل أو ملل. كما أن “مراسل” البغدادية حرص بعد إطلاق سراحه على التواجد في غالبية النشاطات التي مهدت في نهاية المطاف لظهور داعش (خيم الاعتصامات على الطريق السريع ومثلها في الحويجة وبقية المناطق والتجمعات التي انخرطت في ذلك العمل المنظم والواسع).
هذا الانقسام في المواقف ليس بالأمر العابر ولا يمت للعبث بصلة، فالأول (شحاطة أبوتحسين) التي انهالت على صورة الطاغية، كان عملاً عفوياً ولم يكن بحسبان صاحب ذلك النعال الموجود اليوم في متحف ضحايا حلبجة، أن يتحول موقفه ذاك الى مانيفست وصرخة تعلن للعالم كله نهاية الطغيان بفضل وسائل الاتصال الحديثة. على العكس من ذلك كان عمل منتظر الزيدي وقندرته امتداداً للمكر والدهاء الذي توارثته مؤسسات الظلم والاستبداد ووعاظها ومرتزقتها في مجال التعبئة والإعلام والترويج، كان عملاً مبرمجاً ومخططاً له بدقة في المكان والزمان، وفي هذا الاختلاف النوعي يمكننا التعرف على شيء من بلاوي ماضينا القريب والبعيد والذي لا يسمح بالتعرف عليه..!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة